أغاني المهرجانات.. إسفاف وصراخ يشوّه الأغنية العربية
كانت تعيش بيننا منذ زمن ليس ببعيد بعض الكائنات التي نجحت بالفعل في العقد المنصرم في تهديد السوق الغنائي بموضة أغاني خارجة عن النص والمضمون والأخلاق وفرضت حظر تجوال على أصوات حقيقية ظلت متمسكة بالموهبة، كما فرضت أيضاً على مواهب أخرى الانحراف الفني لمواكبة الموجة الجديدة، المهم أن السوق وقتها اهتز لتسقط مع اهتزازاته أسماء معروفة وأصوات مهمة قررت الاستسلام والفرجة من بعيد.. في حين تمسك الكثيرون بقوة الفن وتأثيره ورفضوا السقوط واستكملوا مشوارهم ليبقوا في أصعب الظروف.
انتهت هذه الموضة في بداية ٢٠٠٨ لأن مطربات هذا النوع من الأغاني لم يعد لديهن ما يخلعنه من ملابس وبالتالي فقدن عنصر الإثارة في أغنياتهن.. اختفت نجلا، وانقرضت أغنيات بوسي سمير، وتحطمت أسهم ماريا، ولم يعد لدي جاد شويري أي نوع من الإبهار مثلما كان.
تحولت الظاهرة بسبب ضعفها إلي ماض نتحاكى عنه من بواقي الذكريات، لكن الأزمة التي حلت على الوسط الغنائي كانت تلك الطفرة التي حدثت بظهور أصوات وأشكال موسيقية مختلفة.. ظهور كلمات وموسيقي أشد عنفا من الحروب والانفجارات.. ظهور أسماء تقترب في معانيها من أسماء بعض قطع غيار السيارات لنشاهد ونسمع عن أسماء مثل ”هنكرة وكسبرة وبيكا“ وما خفي كان أعظم..
ظهروا ليكرروا ما حدث منذ سنوات طويلة عندما استسلم المستمع والمشاهد للعنة للأغاني الهابطة لكنهم هذه المرة أعلنوا عن نوع جديد من الفن إسمه فن المهرجانات.. ربما يراه البعض متناسبا مع طبيعة الأجيال الجديدة من حماس وتهور وبعض الجنون والسرعة في الحكم على الأمور لكنني بكل صراحة أرى أن من يحاولون باطلا توريط الجيل الجديد في ظاهرة المهرجانات يظلمون هذا الجيل، يظلمونه لأن المهرجانات ولا أعرف حتى الآن لماذا يسمونها بهذا الإسم، هي أحد أنواع الفشل الفني..
أراها فاشلة من الناحية الفنية لأن معظم وليس كل من يؤديها لايملك موهبة الغناء أو الصوت الجذاب ولهذا يلجأ ”للهبد“ و ”الرزع“ في الايقاعات والموسيقى الصاخبة للتغطية على مشاكل حنجرته ومخارج ألفاظه والاختباء وراء نوع من أنواع الفن الدخيل أهم ما يميزه الألحان الصاخبة التي تتشابه كثيرا، والكلمات التي لا تخلو من الفجاجة، والحديث عن المخدرات..
والمفارقة أن تلك المهرجانات وصلت إلى الطبقات الأعلى اجتماعيا وثقافيا لتحقق انتشارا كبيرا وشهرة لمقدميها لم تكن في الحسبان، لتزيح بعض نجوم الغناء الشعبي من أماكنهم وتسيطر على نسب الاستماع والمشاهدة على منصات السوشيال ميديا المختلفة.
الغريب في الموضوع أنني قابلت بعض المؤدين والموزعين لهذا النوع من الأغاني ”المهرجانية“ واكتشفت أنهم يعيشون مرحلة ”اللي شبع بعد جوع“ بمعنى أن من حققت مهرجاناته ملايين المشاهدات على المنصات الغنائية أو المصورة لم يعد يعترف بوجود نجوم في الغناء سوى من يقدمون فن المهرجان.. يرى أن منير وعلي الحجار ومدحت صالح فولكلور وتراث غنائي لطيف لكنهم لا يستطيعون منافسة نجوم المهرجان في عدد المشاهدات وتأثيرهم في الشارع..
أقسم لكم أن هذا الكلام سمعته من أحد الموزعين الموسيقىين لأغاني المهرجانات وكان يتحدث بثقة لم أشاهدها من قبل حتى عند ملوك الغناد سواء في مصر أو العالم العربي.. عندما قابلته ـ وأقصد هنا الموزع الموسيقى لأغاني المهرجانات، لم يكن يعرف أنني صحفي وتحدث وكأنني من “الفانز بتوعه“ وأخذ راحته لدرجة أنه وعدني أنني سأسمع قريبا أغاني مهرجانات من كل نجوم الغناء في الوطن العربي وكان دليله على ذلك بعض الأغنيات التي قدمها بعض النجوم والنجمات مؤخرا بموسيقي المهرجانات مثل لطيفة وحكيم ومحمد نور وهو ما دفعه للتأكيد على أن المقاومة أصبحت ضعيفة من الموسيقى الكلاسيكية التي لن تستطيع الصمود أمام انتشار وقوة موسيقي وأغاني المهرجانات!
نفس هذا الموزع الذي اعترف أنه كان يعمل “دي جيه” في الشوارع وبقليل من الفهلوة وبعض التقنيات الموسيقىة المنتشرة على الانترنت نجح في الانتشار ووصل لأهم نجوم المهرجانات وأصبح الموزع الأغلى في السوق وتحولت حياته ١٨٠ درجة بعدما تخطت أغانيه حواجز ال١٠ مليون مشاهدة على أقل تقدير للأغنية الواحدة.
لم أتحمل استكمال الحديث معه فهو لم يعد يسمع أو يرى سوى انجازاته التي لم تكمل عامها الأول وينتظر بجدية اتصالا من عمرو دياب ليرجوه للتعامل معه.
هذا ما وصلنا إليه بسبب ارتفاع نسب المشاهدات لأغاني المهرجانات يا سادة.. وصلنا إلى أن نجوم هذا النوع من الموسيقى يعشمون في هدم تاريخ نجوم بحجم عمرو دياب ومدحت صالح وعلي الحجار وأنغام وشيرين وغيرهم.. وصلنا إلى أنهم يطمعون في الانضمام لنقابة الموسيقيين ليس لأنهم يشعرون بفنهم، لا، بل ليكون لهم تصاريح العمل في الأعراس والحفلات بشكل قانوني للتربح وإعلان الحرب على كل ماهو فن محترم.
هذا ما وصلنا إليه ومع ذلك لا أرى الحياة الفنية سوداء لأن ما قصصته عليكم في بداية مقالي يؤكد أن الفن الراقي لن ينتهي ولن يسمح بكل ما يحدث لأن لدينا دائما حوائط صد اسمها أصوات مصر القوية.. نجوم قادرون على شطب تاريخ أغاني المهرجانات بأغنية تداعب المشاعر وتخاطب الأحاسيس.. لدينا أنغام وشيرين وآمال ماهر وسميرة سعيد وعمرو دياب وحماقي وغيرهم ممن لا اشك لحظة في قوتهم وتأثيرهم في الشارع العربي.
في النهاية انا أملك الجرأة الكافية لأدين الفن الذي يقدمه جيل المدفعجية وبيكا وحاحا وكسبرة وشاكوش وغيرهم الذين اعترف انهم غيروا موازين السوق لكنهم أبدا لن يغيروا موازين الذوق.. نجحوا في تحويل المشاعر الي رقصات بالأسلحة البيضاء لكنهم لن يكونوا أبدا رموز للحب والرومانسية في البومات العشاق.
أدعوكم جميعا لرفض كل ما يفسد مشاعرنا وذوقنا وأطفالنا.
أعوكم جميعا للتمسك بفكرة أن الفن رقيّ وأحاسيس وأصوات تحنو على آذاننا ولم يكن أبدا إسفاف وصراخ وسلاسل جنزير وانسيالات حبل غسيل.
أدعوكم للدفاع عن الأجيال الجديدة التي من حقها أن تتعرف على كل ما هو موجود ومن حقهم علينا أيضا أن نذكرهم بابداعات أم كلثوم وحفلات حليم وعود فريد الأطرش وخفة ظل فوزي ونجاحات عمرو دياب وشقاوة فؤاد.
أدعوكم لرفض كل ما يفسد الذوق العام ويهدد أخلاقيات مجتمعنا حتى لو لم تنجح نقابة الموسيقىين للتصدي لمثل هذا النوع من العبث الغنائي فالمستمع والمشاهد هو الأقوى.. قاطعوا أغانيهم المسفة وامنعوا أولادكم من مشاهدة كليباتهم المبتذلة.. اقنعوهم أنهم يتربحون من فساد مشاعرهم ودمار أفكارهم .. ناقشوهم بهدوء مستندين دائما على تاريخ مصري طويل من الفن والابداع والكلمة الحلوة واللحن النابع من القلوب وقارنوا بينه وبين كلمات وموسيقى أغاني المهرجانات الهجينة والمنحوتة من أشهر أغاني نجوم الطرب.. إنها حقا حرب ثقافية على المجتمع وانا أدعوكم للصمود.
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولاتعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن