كيف نجح الراب في المغرب العربي؟
الرابر التونسي “بلطي” تتخطى أغنيته “يا ليلي” مع حمودة أكثر من 750 مليون مشاهدة حتى الآن، وعلى قناته على يوتيوب أكثر من 6 مليون مشترك، وبعدد مشاهدات يقترب من 2 مليار
والمغربي طه فهمي الشهير ب “الجراندي توتو” يملك على قناته على يوتيوب ما يقترب الآن من ثلاثة ملايين متابع، وعدد مشاهدات يقترب من نصف مليار مشاهدة.
أما الجزائري العالمي “سولكينغ” الذي هاجر إلى فرنسا قبل سنوات فقناته على يوتيوب تقترب من عشرة ملايين متابع وعدد مشاهدات وصل إلى 2 مليار و300 مليون مشاهدة، وغير هذا الثلاثي الكثير من النماذج الأخرى، استفادوا من تلك العوامل، واستفادوا من المزج في الغناء باللغة العربية واللهجات المحلية مع اللغات الأخرى الشائعة في العالم مثل الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية… ما السر إذا؟!
خطوة للخلف لتحليل الأسباب
اختلفت الحياة عن السابق، واختلفت طرق التعبير طبقًا لتطور الزمن، ولم يعد الأدب والفن والإعلام بشكله التقليدي هو المعبر عن الشباب وتطلعاتهم.
وبتطور الزمن وتعقد الأفكار والمشكلات كان لابد أن تتسرب أشكال فنية جديدة، تكسر الروتين، وتعبر عن الظل والهامش، وتشكل لغة التواصل لفئات لا يعبر عنها الفن بشكله التقليدي، فظهر الراب في أمريكا ليكون صوت أصحاب البشرة السمراء هناك في السبعينات في برونكس بولاية نيويورك، للتعبير عن مشكلاتهم ومعاناتهم الشديدة، ومن لحظتها بدأ الراب في الظهور والانتشار داخل أمريكا، لتنتقل العدوى إلى مختلف دول العالم، ومنها بلادنا العربية، التي وجد الشباب فيه متنفس بطبيعة الحال، وتيار جديد صادق للتعبير عن أنفسهم، وحكاياتهم الشخصية، فمن خلال “تراك” لا يتعدى الخمس دقائق يستطيع الرابر سرد قصة حياته ونجاحه وإخفاقه في أقصر وقت.
صبر التسعينات يمهد لثورة الموجة الجديدة
ظهر الراب عربيًا في الجزائر نهاية الثمانينات من القرن الماضي عن طريق فرق مثل “أنتيك” و “أم.بي.أس” و “حامة بويز”
وفي المغرب عن طريق مجموعة من الشباب الذين هاجروا وعادوا مبكرًا ليدخلوا اللون الموسيقي الجديد للبلاد، وتطور في التسعينات عن طريق ” دون بيغ” الذي كان لا يزال في الرابعة عشر من عمره.
كانت التقنية، لا تزال محدودة، ولم تكن مواقع التواصل ظهرت ولا اليوتيوب الذي تأسس فبراير 2005 والذي يمثل البوابة الثقافية والفنية على ما يدور في العالم منذ تأسيسه وحتى الآن، بل كان يقتصر الأمر على بعض المواقع والمنتديات القليلة والأسطوانات المضغوطة.
وبالتالي كان النطاق محدودًا، والعوائق أكبر، لكن لا شيء ولا وضع يدوم للأبد، فمع تطور التقنية، وانتشار الحواسب المحمولة والهواتف الذكية، أصبح العالم كله كتلة واحدة متصلة، الجميع يسمع ويرى، يتكلم وينشر ويشارك موهبته وأفكاره في الوقت نفسه…فانتشر الراب أكثر مطلع الألفينات حتى ذروة صعوده الأعلى في تاريخ البلدان العربية قبل خمس سنوات، تزامنًا مع دخول “الترَاب” على الخط.
زادت المسافة بين الفن التقليدي وفن الشباب
زادت المسافة بين الفن التقليدي الذي أصبح في واد والشباب في واد آخر، فلن تجد الأغنية التقليدية تعبر عن مشكلات الفقر والبطالة والتعليم، حتى في التعبير عن الحب والاحتياج العاطفي، أصبحت الأغنية التقليدية أكثر خفة وسطحية، وعليه تزايد الطلب على فن تكون طريقة تعبيره واقعية، وأما وإن الفن موجود وله جذور قديمة من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي فالأزمة محلولة.
الجميع الآن يمتلك حاسوب وهاتف ذكي، وسماعة رأس، فلما لا؟
وأبرز النجوم من المغرب وتونس والجزائر بدأوا تلك البدايات المتواضعة حتى وصلوا للقمة، بلطي وسولكينغ والجراندي توتو وسافاج بلوج وغيرهم، بدأو جميعًا تلك البدايات البسيطة، بمايك ولاب توب وسماعة رأس وقاموا بالتسجيل داخل غرف مغلقة واستطاعوا الوصول لأوسع نطاق.
الراب يروج للعلاج بالمخدرات!
لو دققت النظر في الراب الذي يشغل أغلب موضوعاته الآن المخدرات وما يدور داخل عالم العصابات، ستجده يملك أبسط وأسهل وسائل التعبير عن الذات، وأسهل طريق للوصول، أرخص من المواد المخدرة التي يتحدث عنها، ومن الأموال التي يدفعها البعض لهجرة شرعية عن طريق البحر أحيانًا تكون نهايتها الموت أو الحبس والترحيل في أحسن الأحوال!
فلما لا، فربما الحديث الألم والمعاناة يكون من باب “وداوها بالتي كانت هي الداء” وهو في كل الأحوال يعد تنفيسًا رحيمًا عن قسوة الغرق في البحر أو ظلمات السجون خارج الديار
النجاح مقابل قطع الأنفاس
لم يكن تراجع الأغنية التقليدية “البوب ميوزيك” سبب وحيد لصعود الراب، لإن الأغنية العاطفية لازالت تتمتع بقدر من الأهمية، لا زالت تحصل على إعجاب الجمهور وملايين المشاهدات لكنها أصبحت أقل تأثيرًا، وأقل اتصاقًا بهوية الشباب ولم تعد الوجه الأكثر تعبيرًا عنهم مثلما كان الحال في الماضي، ولكن هناك أسباب أخرى تضاف إلى ذلك.
أحد أهم أسباب انتشار الراب ونجاحه هو إيقاعه المناسب لسرعة الزمن الزمن الحالي سريع، بطريقة تقطع الأنفاس، يلهث الإنسان خلفه، وأحد أهم أسباب انتشار الراب ونجاحه هو إيقاعه المناسب لسرعة الزمن، السرعة التي تتفق وسرعة الجيل الخامس والتطور الخرافي للتقنية، السرعة التي تناسب ما يستطيع الإنسان إنهاءه من أعمال في وقت قياسي وأحيانا بضغطة زر، وهو ما يجعل إيقاعات الراب مناسبة أكثر للشباب الذين يسابقون الزمن في كل شيء، من أجل إنهاء مهامهم الخاصة، من أجل التعبير عن أحلامهم وواقعهم، وبالتالي السر هنا في السرعة والإنجاز.
حرية الراب تمنحه الأفضلية
يملك الراب العديد من الأدوات التي يحسد عليها ولا يمتلكها غيره من الألوان الموسيقية الأخرى، مع مميزات إضافية لوجوده في بلاد المغرب العربي.
يمتلك الراب أهم عوامل نجاحه مبدئيًا، وهو عامل الحرية، يمتلك كل طرق التعبير الممكنة والمتاحة والخارجة أحيانًا عن المألوف وعن السياق المجتمعي، وذلك لأنه فن الشارع البعيد عن الرسميات، وعن التركيز الإهتمام الإعلامي الرسمي أغلب الوقت، فيعبر عن مشاكل المجتمع بوضوح ودون مواربة، يستطيع الخوض في غمار السياسة المخيفة والمحفوفة بالمخاطر، وهو ما ينطبق على تونس بالتحديد أكثر من غيرها من دول المغرب العربي، حيث يسير الرابرز هناك على الأشواك ولهم في ذلك تاريخ في معارضة سلطة بن علي، قبل ثورة الياسمين حيث تم التنكيل بهم وحبس العديد منهم مثل فريد المازني وعبد السلام فينيكس وغيرهم حين كان سقف الحرية لا يزال منخفضًا حيث لا تستطيع أن ترفع صوتك أو رأسك، بينما وقف هؤلاء بإمكانيات ضعيفة ومحدودة في وجه السلطة هناك.
وما يميز الراب في شمال أفريقيا بالتحديد عن غيرهم هو التنوع في التيمات الموسيقية، فالهوية حاضرة في الموسيقى، والتداخل والمزج حاضر ومتعدد بين الراب والتراب من جهة والراي والموسيقى الأمازيغية من جهة أخرى، حتى إيقاعات المهرجانات المصرية وصلت إلى هناك، وغنى عليها الرابر الجزائري “سافاج بلوج” من توزيع “مولوتوف”!
ومما يميز الراب في شمال أفريقيا أيضًا هو المرونة والتعاون المشترك بين الشباب في المغرب والجزائر وتونس، مجال أكثر انفتاحًا وأقل تعصبًا، مستفيدًا من مميزات التقارب والهوية المشتركة والترابط والعامل الجغرافي المتمثل في قرب المسافة بين الدول الثلاث، خصوصا تونس والجزائر حيث يستطيع البعض العمل في تونس والعودة للجزائر في نهاية اليوم والعكس !
كل هذه العوامل ساهمت في ارتفاع أسهم الراب وعلو نجمه، ووصول نجومه لمكانة ربما لم يحلموا يومًا بالوصول إليها
الراب يترجم أمنيات الشباب
مؤخرًا ستجد على مواقع التواصل جملة منتشرة بتنويعاتها المختلفة في مصر والدول العربية بما فيها المغرب العربي وهي “اللهم هجرة”
وتعبر الجملة باختصار عن الإحباطات والصعوبات التي يواجهها الشباب العربي والتي تدفعهم لتمني الهجرة، وقد عبر الراب بالفعل على مدار السنوات العشر الأخيرة في المغرب العربي عن مسألة الهجرة ما بين كونها مأساة أو حتى التطلع إليها على اعتبار أنها جنة النعيم.
والأمثلة كثيرة منها أغنية “يا فرنسا” التي جمعت مستر سينا وشاب بشير وصادق وحصلت على 24 مليون مشاهدة، تتحدث عن الطموح في الهجرة والعودة للبلاد في حال أفضل، “ونجيب اليورو ياما ونرجعلك متهني، ونجيب العروسة ياما وأنت اللي تحني..” هكذا يقول شاب بشير في الأغنية التي تحضر فيها اللغة الفرنسية والإيطالية مع اللغة العربية.
أما في أغنية “يامّا” التي جمعت المغربي “حليوة” بالتونسي “بلطي”
فيقول حليوة في بدايتها ” يامّا يامّا يامّا ..شربنا الهم في كوكتيل… ماما ارتاحي الحاسدين أطلقوا سراحي…ولاد الحومة مشوا ميلانو وصلوا لروما”
وهي من أكثر الأغنيات المعبرة عن مشاكل الشباب والمسافة بين الواقع المؤلم وبين الأحلام الوردية، حصلت الأغنية على أكثر من 50 مليون مشاهدة