لماذا تعد الرمال إحدى أهم المواد التي يتزايد عليها الطلب؟
في سبتمبر/أيلول 2019، قُتل رجل أعمال في جنوب أفريقيا بإطلاق النار عليه، وقبله بشهر واحد، قُتل مزارعان هنديان في تبادل لإطلاق النار، وفي شهر يونيو/حزيران قُتل ناشط بيئي مكسيكي.
هذه الحوادث الثلاث تفصل بينها آلاف الأميال، لكن سبب القتل واحد. فهذه الموجة الأخيرة من حوادث العنف أشعلها صراع على واحدة من أهم سلع القرن الحادي والعشرين وأقلها حظا من الاهتمام، وهي الرمال.
وترافق اشتعال الطلب على رمال السيليكا عالية النقاوة، التي تستخدم في صناعة الزجاج والمنتجات المتطورة مثل لوحات الطاقة الشمسية وشرائح الكمبيوتر، مع تدمير الأراضي الزراعية والغابات في ولاية ويسكونسن بالولايات المتحدة التي تحوي أراضيها رمالا عالية النقاوة.
وانخرطت عصابات إجرامية في الصراع على الرمال، وأخذت آلاف الأطنان منه لبيعها في السوق السوداء. وذكرت جماعات حقوق الإنسان أن بعض العصابات في أجزاء من أمريكا اللاتينية وأفريقيا تستعبد الأطفال للعمل في مقالع الرمال. وكشأن جميع الجرائم المنظمة، يفلت هؤلاء من العقاب بدفع رشاوى لرجال الشرطة والمسؤولين الحكوميين الفاسدين، أو إذا لزم الأمر، بقتل من يقف في طريقهم.
وسقط الكثير من الضحايا إثر احتدام الصراع على الرمال في كينيا وجامبيا وإندونيسيا. وفي الهند، سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى في اشتباكات مع عناصر ما بات يعرف بـ”مافيا الرمال”.
ويعكف الآن علماء على إيجاد طرق لتصنيع الخرسانة من مواد بديلة للرمال، مثل الرماد الذي تخلفه محطات الطاقة التي تعتمد على الفحم، أو أجزاء البلاستيك الصغيرة أو قش الأرز. ويطور آخرون خرسانة تحتوي على نسبة أقل من الرمال.
وعلى الرغم من أن الكثير من الدول الغربية حظرت جرف الرمال من الأنهار، إلا أنه سيكون من الصعب حض الدول الأخرى على اتخاذ خطوات مماثلة للحد من جرف واقتلاع الرمال.
ويقول ميت بينديكسن، وهو عالم جغرافيا بجامعة كولورادو: “نحن في حاجة لبرنامج لمراقبة عمليات نقل الرمال، لأنها لا تخضع حاليا لأي جهة تنظيمية”.
وفي الوقت الحالي، لا يعلم أحد تحديدا حجم الرمال التي تستخرج من الأراضي حول العالم، ولا المكان الذي تستخرج منه، ولا الشروط المنظمة لعمليات جرف الرمال. ويقول بيندكسن: “كل ما نعرفه هو أنه كلما زاد عدد السكان، زادت حاجتنا للرمال”.
وتعد الرمال قوام المدن الحديثة، إذ أن الخرسانة التي نستخدمها في بناء مراكز التسوق والمكاتب والعمارات، وكذلك الأسفلت الذي نستخدمه في تعبيد الطرق، هما عبارة عن رمال وحصى. ويصنّع الزجاج في كل نافذة وشاشة هاتف ذكي من رمال منصهرة. وحتى الشرائح الإلكترونية وكل قطعة في المعدات الإلكترونية في منزلك مصنوعة من الرمال.
تهديد خطير
في حين أن شواطئنا وصحارينا قد توحي بالوفرة، إلا أن هناك نقصًا حادًا في إمدادات الرمال بسبب الطلب المتزايد بشكل غير مسبوق، مما يهدد الإمدادات العالمية بشكل خطير.
الرمال تُعد مكوناً رئيسياً للخرسانة والزجاج ومواد البناء الأخرى، وتلعب دوراً حاسماً في بناء المناظر الحضرية.
دراسة أجرتها جامعة ليدن في هولندا عام 2022 تحذر من ارتفاع متوقع يصل إلى 45% في الطلب على الرمال خلال العقود القليلة المقبلة، ومن المتوقع أن يصل الاستهلاك السنوي لقطاع البناء إلى 4.6 مليار طن بحلول عام 2060، نتيجة النمو السكاني السريع والتطور الاقتصادي في أفريقيا وآسيا.
الرمال هي “المورد الطبيعي الأكثر استهلاكاً بجانب الماء”، حيث يتم استخدام حوالي 50 مليار طن منها سنوياً، مما يشكل كمية ضخمة قادرة على تغطية المملكة المتحدة بأكملها.
الرمال اللازمة للبناء تأتي من الأنهار والبحيرات وشواطئ البحر، وتمثل تحدياً بسبب طبيعتها وشكلها.
الرمال في الصحاري غير مناسبة للبناء لأنها ناعمة ومستديرة وتتآكل بفعل الرياح، بينما تحتاج الرمال الأكثر فائدة إلى أن تكون ذات زوايا لتشكيل خرسانة قوية.
الطلب الهائل على الرمال أدى إلى استنزاف مجاري الأنهار وشواطئ البحر في معظم أنحاء العالم، وأدى إلى ظهور سوق سوداء خطيرة للرمال تديرها عصابات إجرامية.
باسكال بيدوزي من برنامج الأمم المتحدة للبيئة يقول: “قضية الرمال قد تكون مفاجئة للبعض.. لا يمكن استخراج 50 مليار طن سنوياً من أي مادة دون أن تكون له تأثيرات هائلة على الكوكب وحياة البشر”.
ما هو تأثير أزمة الرمال؟
تعاني مراقبة تعدين الرمال من نقص في الكفاءة، مما أدى إلى تفاقم المشكلة بشكل كبير، يُضطر صانعو السياسات إلى الاعتماد على “تقديرات تقريبية” لكمية الرمال المستخدمة سنويًا، وهذا يختلف عن معظم السلع الأخرى، حسبما أفادت دويتشه فيله.
في تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة في عام 2019، تم استخدام بيانات الأسمنت (الذي يحتوي على الرمل والحصى) للوصول إلى رقم قياسي يبلغ 50 مليار طن للاستخراج السنوي للرمال. هذا الرقم يتجاوز الحدود المستدامة لاستخراج الرمال، مما أدى في بعض المناطق إلى زيادة في الجرائم المنظمة وتدهور البيئة المحلية.
تأثير أزمة الرمال يظهر بوضوح في جميع أنحاء العالم، حيث يتم استخراج الرمال بمعدلات تفوق بكثير قدرة البيئة على التجديد الطبيعي، وهذا يؤدي إلى تكاليف بيئية واجتماعية مرتفعة.
تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة أظهر تأثيرات سلبية كبيرة نتيجة استغلال الرمال بشكل مفرط، مثل غرق دلتا نهر ميكونغ في جنوب شرق آسيا وتملح الأراضي المزروعة سابقاً. كما أدت إزالة الرمال في سريلانكا إلى تعطيل تدفق المياه الطبيعي وتغيير اتجاه المياه، مما تسبب في تهديد حياة الكائنات المحلية مثل تماسيح المياه المالحة.
مع استمرار زيادة الطلب على الرمال، يتحول الاهتمام الآن نحو قارة أفريقيا، حيث يقوم السكان المحليون في كثير من الأحيان بتعدين الرمال من الشواطئ لتلبية احتياجات المدن المتنامية. هذه الممارسة تشكل تهديداً كبيراً للسواحل والبيئة الساحلية، وتعزز من آثار الأزمات المناخية السلبية.
وتضاعف عدد سكان المدن أكثر من أربعة أمثال منذ عام 1950، حتى وصل الآن إلى 4.2 مليار نسمة. وتتوقع الأمم المتحدة أن يضاف إليهم 2.5 مليار نسمة في العقود الثلاثة المقبلة.
ويتطلب تشييد المباني لاستيعاب هذا الكم من البشر، وتمهيد طرق لربط المباني ببعضها، كميات مهولة من الرمال. وقد تضاعفت كميات الرمال التي استخدمت في أعمال البناء في الهند ثلاث مرات منذ عام 2000.
الأولوية للحد من استخراج الرمال الطبيعية
وفقًا لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، من الضروري أن يُعطى الأولوية للحد من استخراج الرمال الطبيعية والآثار المرتبطة بها على المدى القريب لتجنب حدوث أزمة كبيرة. يقترح التقرير التخلص من المشاريع البنائية غير الضرورية والبناء التخميني، ويدعو إلى إعادة تدوير المواد الموجودة، خاصة في الدول المتقدمة ذات البنية التحتية القوية، مثل ألمانيا التي تعتمد بالفعل على إعادة تدوير 87% من نفاياتها الإجمالية. كما يشير التقرير إلى استخدام الرماد المعاد تدويره كبديل للرمل، الناتج عن النفايات الصلبة المحروقة.
يقدم تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة عشر توصيات حول كيفية إدارة الموارد الرملية بطريقة مسؤولة ومستدامة وعادلة.
ويشدد التقرير على أهمية وضع سياسات وأطر قانونية متكاملة تساعد في تقييم القيمة الاجتماعية والبيئية الحقيقية للرمال، بحيث يُعتبر سعرها عاملاً محفزًا للاستخدام المستدام.
يؤكد بيدوزي، منسق التقرير لعام 2022، على أن الموارد الرملية ليست غير محدودة، وأنه من الضروري استخدامها بحكمة لتفادي الأزمات المستقبلية والانتقال نحو الاقتصاد الدائري، الذي يهدف إلى الحد من استخدام الموارد الطبيعية وتعزيز إعادة التدوير والاستخدام المستدام للمواد.
الصين وكميات صخمة من الرمال
استخدمت الصين كميات من الرمال خلال هذا العقد تفوق ما استخدمته الولايات المتحدة من الرمال في القرن العشرين بأكمله.
في الصين، أدى استصلاح الأراضي البحرية إلى تدمير المستنقعات الساحلية والبيئات الطبيعية للأسماك والطيور ومفاقمة مشكلة تلوث الهواء.
وتوسعت سنغافورة عمرانيا بإضافة 130 كيلومترا مربعا إلى أراضيها على مدى 40 عاما، مستخدمةً رمال مستوردة من الخارج. وبسبب هذا التوسع العمراني وقعت أضرار بالغة على البيئة، ما حدا بأندونيسيا وماليزيا وفيتنام وكمبوديا إلى فرض قيود على صادرات الرمال إلى سنغافورة.
وأشارت مجموعة بحثية هولندية إلى أن مجمل مساحة الأراضي الاصطناعية التي أضيفت إلى سواحل العالم بلغت 13,563 كيلومترا مربعا، باستخدام كميات هائلة من الرمال.
وقد يتسبب جرف الرمال من قاع الأنهار في تدمير البيئات الطبيعية التي تعيش فيها الكائنات التي تستوطن القاع، وتلويث المياه بالرواسب التي كانت مستقرة في القاع، وقتل الأسماك وحجب أشعة الشمس عن النباتات التي تنمو تحت الماء.
وفي فيتنام، يسهم جرف الرمال، جنبا إلى جنب مع ارتفاع منسوب مياه البحر جراء تغير المناخ، في غرق أجزاء من دلتا ميكونغ، التي تأوي 20 مليون شخص وتعتمد عليها البلاد في الحصول على نصف غذائها.
وكانت الرواسب التي ينقلها نهر مكيونغ من جبال وسط آسيا، تعمل على تعويض المساحات المتآكلة من دلتا ميكونغ. لكن في السنوات الأخيرة جرفت كميات هائلة من الرمال من قاع النهر، قدرها باحثان فرنسيان بنحو 50 مليون طن في عام 2011 فقط، وشيدت سدود عديدة في المنطقة، حالت دون تدفق الرواسب إلى الدلتا.
والأسوأ من ذلك، أن جرف الرمال من نهر ميكونغ وغيره من المجاري المائية في كمبوديا ولاوس يؤدي إلى انهيار ضفاف الأنهار، ومن ثم هبوط الأراضي الزراعية وسقوط المنازل المجاورة.
وأهدرت ملايين الدولارات لإصلاح الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية حول العالم، إثر جرف الرمال، مثل انسداد شبكة نقل وتوزيع المياه بسبب تحريك الرواسب المستقرة في قاع الأنهار. وفي غانا جرف العمال كميات كبيرة من الرمال إلى حد أن الكثير من المباني على سفوح الهضاب أصبحت عرضة للانهيار.
وتسبب جرف الرمال في انهيار جسر في تايوان عام 2000، وآخر في البرتغال في العام اللاحق.