أخيراً أصبح يمشي ويركض.. كيف حقّق “ماتس ستين” أحلامه في عالم الألعاب قبل وفاته؟
هُنا في مدينة أوسلو، وبالتحديد في شقته الخاصة، يمضي ساعات طويلة خلف حاسوبه، يحرّك الأزرار فقط، إلى أن يأتي الليل ثم ينام.. على هذه الحال قضى “ماتس ستين” أغلب سنين حياته، قبل أن تدق ساعة الصفر وينهيها المرض، فما هي قصته؟ وكيف بدأت بالضبط؟.
بالبداية دعونا نعرفكم بـ”ماتس”، الشاب النرويجي الذي ولد مصاباً بمرض وراثي نادر اسمه “دوشين“، وهو مرض لا علاج له، يصيب جميع عضلات الجسم، التي تبدأ تضعف تدريجياً حتى تؤدي لإعاقة الشخص حركياً، وغالباً ما يُصاب به الذكور بنسبة أكبر بكثير من الإناث.
في السنوات الأولى من حياته، كان طفلاً طبيعياً إلى حد ما، حيث قالت والدته ترود إنه “ولد بجسم يعمل بشكل مثالي، ثم ببطء وثبات، بدأ يُحرم من شيء تلو الآخر”، وبالفعل يوماً بعد يوم، بدأ والداه يلاحظان تأخره في النمو مقارنة بأقرانه، فكان كثيراً ما يقع، وعندما يريد الوقوف مرة أخرى، يجد صعوبة بذلك.
“من المؤلم جداً أن ترى حالة طفلك تزداد سوءاً” هذا ما قالته والدة ماتس، فهي التي كانت ترافقه عند ذهابه للمدرسة، وقيامه بأي أنشطة أخرى، كانت تراقب تأخر حالته، واحتياجه في كل مرة لوسيلة مساعدة جديدة.
والآن، ها هو ماتس يبلغ العاشرة من عمره، ليدخل فصلاً جديداً من حياته، عنوانه “لن أستطيع المشي مرة أخرى”، فقد كانت هذه أول مرة يستخدم فيها كرسياً متحركاً.
كان يحاول التصرف بشكل طبيعي مع الجميع، يرافق أهله في رحلاتهم، محاولاً إخفاء مشاعره، يشاهد الأطفال من عمره، كيف يلعبون ويمضون وقتهم، متمنياً أن يكون مكانهم، حتى الطعام الذي يحبه لم يكن يستطيع أن يأكله دائماً، ففي كثير من الأحيان كان يفقد شهيته.
كان مهربه الوحيد من هذا العالم هو “حاسوبه”، حيث قال “إنها ليست شاشة، هي مهرب لأي مكان تتمنوه”.
بدأ يقضي ساعات طويلة خلف حاسوبه، يلعب الألعاب إلى أن يحل الظلام ويأتي وقت النوم، كان والداه يلاحظان ذلك ويحاولان تنبيهه دائماً، حتى جاء اليوم الذي أنهى فيه ماتس مدرسته، وقرر حينها الانتقال إلى شقته الخاصة، في الطابق الأرضي من منزل عائلته.
مرت السنين، وهو لا يزال على نفس الحال “خلف حاسوبه”، وحالته الصحية تزداد سوءاً، كان يرافقه مساعد واحد على الأقل، يبقى بجانبه طول الوقت، وخاصة بعد أن أصبحت أغلب أجزاء جسده متوقفة عن الحركة، بالكاد يحرّك أصابعه.
وفي الثامن عشر من نوفمبر 2014، أنهى “دوشين” حياة ماتس، بعد صراع امتد لـ 25 سنة، لم يكن خبر الوفاة سهلاً على عائلته، فرغم انعزاله الدائم إلا أنهم قد حزنوا على فراقه كثيراً، كانوا يفكرون بأنه قد أنهى حياته وحيداً، إلا أنهم تفاجأوا بعكس ذلك عندما قرروا إخبار متابعيه على الإنترنت بوفاته، فلم تمر دقائق على نشر الخبر حتى انهالت عليهم رسائل التعزية من كل مكان.
فـ”ماتس” الذي كان مجرد شخص من ذوي الاحتياجات الخاصة بنظر الكثيرين من حوله، لم يكن كذلك في عالم الألعاب، فقد استطاع أن يبني شخصية كرتونية في لعبة “World of Warcraft” يحقق فيها نفسه، كل ما تمنى أن يملكه على أرض الواقع كان موجوداً فيها، شخصيةٌ نبيلة محبوبة من الجميع، تنشر الخير بين الناس، وقبل كل ذلك “تمشي وتركض”.
“إيبلين” هذا هو اسم الشخصية الافتراضية كما وضعها ماتس، عبارة عن رجل طويل القامة، لديه شعر أشقر اللون -مثل ماتس-، وبنية عضلية قوية، كان يعبّر من خلالها عن كل ما يجول في خاطره، مشاعره، وأحاسيسه.
لم يكن “إيبلين” شخصية موجودة في عالم الألعاب وحسب، بل كان واقعياً أيضاً، ففي مرة من المرات، استطاع ماتس عن طريق اللعبة أن يُصلح العلاقة بين أم وابنها، كان الابن مصاباً بالتوحد ولا يحب التحدث مع أمه والاقتراب منها في الحقيقة، وكانت الأم تمضي وقتها على اللعبة نفسها الخاصة بماتس ولها شخصية كرتونية هناك كذلك، وبفضل خاصية الدردشة الموجودة باللعبة، تحدثت الأم مع ماتس وأخبرته بمعاناتها مع ابنها، واقترح عليها بأن تلعب مع ولدها – بما أنه يحب اللعب أيضاً -، وهناك تستطيع التحدث معه وفعل كل ما تريده.
وبالفعل هذا ما حدث، أصبحت الأم قريبة من ابنها في اللعبة والواقع أيضاً، فقد بدأ يحب اللعب والتحدث مع أمه وعناقها، أي باختصار أعاد لهم الحياة من جديد.
حتى الحب، نعم، استطاع ماتس من خلال اللعبة أن يجرّب شعور الحب لأول مرة، حيث التقى بفتاة هناك، بدأ يتحدث معها ويساعدها بحل مشاكلها ويمضي وقته معها بالساعات، صحيح أنها لم تكن تعلم من هو في الحقيقة، ولكنها أعجبت به وبشخصيته دون أن تراه.
يقول ماتس: “في هذا العالم الآخر، لن ترى أي فتاة كرسيي المتحرك أو أي شيء مختلف، بل إنها تضع قلبي وروحي وعقلي في مكان مناسب داخل جسد قوي وسيم”.
لقد اكتشفت عائلته كل ذلك بعد وفاته، عبر رسائل البريد الإلكتروني، وأرشيف اللعبة الذي ما زالت كل المحادثات موجودة فيه، ومدونة ابنهم “تأملات الحياة” أيضاً التي كان يشارك فيها تأملاته حول حالته وطموحاته وهو داخل المنزل، والتي نشرها قبل وفاته بفترة قصيرة، علموا بأن ابنهم كان محبوباً، وكوَّن الكثير من الصداقات التي لم يستطع تكوينها في الواقع.
ولم يكتف أصدقاء ماتس بتعزيته عبر الإنترنت، بل طلبوا من العائلة إرسال مكان التعزية للقيام بواجبهم تجاهه، وتخليداً لذكراه أيضاً، عملوا قبراً افتراضياً له داخل اللعبة يتجمعون عنده سنوياً لكي يتذكروه دائماً.
أمضى “ماتس” نحو 20 ألف ساعة لعب بآخر 10 سنين من حياته، أصبح خلالها جزءاً مهماً من مجتمع اسمه “ستارلايت”، وعاش هناك حياة ثانية مع أصدقائه في عالم تقمص الأدوار.
أصبحت قصة ماتس الآن موضوعاً لفيلم اسمه “The Remarkable Life of Ibelin“، وهو فيلم وثائقي عاطفي ابتكره المخرج بنيامين ري، تم نشره في مارس الماضي، وطرحته منصة “نتفليكس” ضمن أفلامها أيضاً في 25 أكتوبر من العام الحالي 2024، وقد فاز بجائزتي الإخراج والجمهور في مهرجان صندانس السينمائي، وكان مرشحاً لجائزة الأوسكار كذلك.
يتحدث الفيلم عن الحياة الاجتماعية السرية التي عاشها ماتس على الإنترنت، والتأثير العميق الذي أحدثه على اللاعبين الآخرين، ويجمع بين مقاطع الفيديو المنزلية الأرشيفية والرسوم المتحركة التي تم إعادة إنشاء محادثات ماتس وإضفاء الطابع الدرامي عليها باستخدام نصوص حقيقية وسجلات اللعبة أيضاً، كما يظهر في الفيلم والدا ماتس، روبرت وترود ستين، ليتحدثا عن التجارب الغنية التي خاضها ابنهما المُعاق عبر الإنترنت في لعبة World of Warcraft دون علمهما، ويسرد أصدقاؤه كل منهم تجربته مع ماتس والمواقف التي حدثت بينهم في اللعبة.
وذكرت هيئة الإذاعة البريطانية BBC، أنه تم استكشاف الحياة المزدوجة لماتس ستين لأول مرة في عام 2019 من قبل هيئة الإذاعة العامة النرويجية NRK، والتي ألهمت حينها صانع الأفلام النرويجي ومخرج الفيلم، بنيامين ري، لسرد القصة كفيلم وثائقي، حيث يقول: “أعتقد أن قصته تطرح بعض الأسئلة ذات الصلة حقاً اليوم، هل من الممكن أن تصبح صديقاً لشخص لم تقابله أبداً؟ هل من الممكن أن تعيش تجربة الحب مع شخص لم تقابله أبداً؟ وإلى أي مدى يمكن أن تكون صداقتك وثيقة مع شخص تتواصل معه كتابياً ولم تتحدث إليه أبداً؟”.
أي بالإضافة لقصة ماتس، يسلط الفيلم الضوء أيضاً على قضية مهمة وهي “الفجوة بين الأجيال”، والتحديات التي يواجهها العديد من الآباء من أجل فهم التجارب الافتراضية اليومية لأطفالهم، وبالأخص في هذا الوقت الذي أصبحنا نعيش فيه حياة رقمية بشكل كبير.