أخبار الآن | دبي – الإمارات العربية المتحدة (BBC)
على مدار أعوام طويلة، عانى أطفال قبائل من مرض غامض، خطف أرواحهم وترك بعضهم أسير نوبات التشنج، التي قد تؤدي أحياناً لتعرضهم لإصابات خطيرة منها الحروق أو الغرق.
هذا المرض كان يعرف في قبائل تنزانيا باسم “كيفافا” (أو الموت الصغير باللغة السواحلية)، والذي يُعرف أيضا باسم “متلازمة الإيماء”.
ولا أحد يعرف حتى هذه اللحظة أسباب هذا المرض، إذ كان يُعتقد سابقا أنه نوع نادر وغامض من الصرع، لكن أبحاثا جديدة أشارت إلى أنه قد يكون مرض تنكسي في الجهاز العصبي، يجمع بين نوبات الصرع وبين بعض أعراض داء باركنسون وألزهايمر. وفي النهاية، يلقى المرضى حتفهم جراء مضاعفات نوبات التشنجات، مثل تلف خلايا الدماغ والحوادث أو الأمراض العقلية والإهمال.
اقرأ : ما لا تعرفه عن ارتفاع حرارة الطفل
وقد توصل بحث أجري عام 2018 إلى أول مفتاح لحل لغز هذا المرض، إذ لاحظ الباحثون أن أدمغة المراهقين المصابين بالمرض تشبه إلى حد كبير أدمغة المسنين المصابين بألزهايمر وداء باركنسون. ويقول رئيس فريق الباحثين، مايكل بولانين، المتخصص في علم الأمراض بجامعة تورنتو: “لاحظنا وجود إصابة في خلايا الدماغ، ورأينا أننا إذا تمكننا من تحديد نوع الإصابة قد نصل إلى جذور المرض”.
وهذا التشابه بين أعراض متلازمة الإيماء وأعراض أمراض أخرى، يزيد من أهمية هذه الأبحاث، إذ قد يسهم في الكشف عن العوامل التي تؤدي إلى زيادة مخاطر الإصابة بالاضطرابات التي طالما حيرت العلماء، مثل ألزهايمر.
ليس وراثياَ
ويقول بيتر سبنسر، عالم أعصاب بمعهد أوريغون لعلوم الصحة المهنية: “إن هذا المرض يظهر ويختفي، فقد ظهر في شمالي أوغندا عام 1997، وسجلت أعلى معدلات الإصابة به في السنوات الخمس الأولى من الألفية الثالثة ثم اختفى. لذا لا يمكن أن يوصف بأنه اضطراب وراثي”.
وتجرى أبحاث عن مرض محير آخر، انتشر بين شعب الشامورو، السكان الأصليين لجزيرة غوام التي تقع في ركن قصي من المحيط الهادئ. وتعود بداية ظهور هذا المرض إلى عام 1904 على الأقل. ويطلق عليه العلماء متلازمة الخرف والشلل الرعاش والتصلب الجانبي الضموري بغرب المحيط الهادئ.
وقد حصد هذا المرض الكثير من الأرواح. ويسبب أعراضا تتطابق مع أعراض متلازمة الإيماء. ويقول سبنسر: “إن هذا المرض اختفى تماما من جزيرة غوام، ومن الواضح أن مصدره بيئي”.
ما علاقة التسمم الغذائي ؟
لكن أثبتت نتائج آخر الأبحاث أن متلازمة الخرف والشلل الرعاش والتصلب الجانبي الضموري كان مصدرها غذائي.
إذ يفضل شعب الشامورو ـأحد شعوب أوغندا) تناول بذور أشجار السيكاس الضخمة، الغنية بمادة كيميائية سمية، وهي “بيتا مثيل أمين ألانين”، التي تسبب نفس إصابات الدماغ المصاحبة لهذه المتلازمة. فهل تلعب السموم الطبيعية في الأغذية دورا أيضا في الإصابة بمتلازمة الإيماء؟
اقرأ : التهاب الجيوب الأنفية مرتبط بالاكتئاب والقلق
ظهرت متلازمة الإيماء بين المجتمعات الأكثر حرمانا في أفريقيا، وأصابت بوجه خاص الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية. إذ دفع الجوع الكثير من العائلات، إبان الحرب الأهلية في أوغندا، إلى تناول أطعمة مشكوك في صلاحيتها، مثل الذرة المتعفنة والبذور المغطاة بالمبيدات، التي كانت برامج الإغاثة تقدمها لهم في المخيمات بقصد زراعتها. وزادت احتمالات الإصابة بمتلازمة الإيماء بين أطفال العائلات التي تناولت هذه الأطعمة.
وحتى في أوقات الرخاء، تعتمد هذه المجتمعات في طعامها على نبات الكاسافا والذرة البيضاء (السورغم)، ويحتوي كلاهما على مواد كيميائية قد تتحول في الجسم إلى سيانيد، وهو مركب قد يفضي إلى الموت. وأثبتت دراسات وجود علاقة بين الاعتماد على تناول الكسافا غير المعالجة بشكل كاف وبين مرض “كونزو” وهو مرض تنكسي عصبي أصاب أجيالا متعاقبة في المناطق الأكثر فقرا بشرق ووسط أفريقيا.
وقد اكتُشف أن نبات الكسافا، الغني بالفيتامينات والكربوهيدات، إذا لم يعالج جيدا بالنقع لعدة أيام والتقطيع الجيد، قد يسبب التسمم الغذائي. إذ يتغلل السيانيد في الجسم ويدمر الخلايا العصبية التي تحمل الإشارات للدماغ والعضلات، ويؤدي إلى الإصابة بالشلل مدى الحياة، والكثير من الضحايا أصيبوا بشلل رباعي.
اقرأ : هل النظام الغذائي النباتي أكثر صحة من تناول اللحوم؟
ومنذ أن اكتشف العلماء دور التسمم الغذائي في الإصابة بمتلازمة جزيرة غوام، فإن البحث جار الآن عن دوره في تطور أمراض التنكس العصبي الأخرى. وتحسبا لذلك، يجري العلماء تجارب على مادة كيميائية تحمي من تلف الدماغ الذي قد تسببه هذه المواد السمية، وربما توفر هذه التجارب علاجا جديدا للتصلب الجانبي الضموري، والخرف في المراحل المبكرة.
ويقول بولانين: “سأكرس كل وقتي لمواصلة هذا البحث، وسأجمع فريقا من الباحثين من مختلف التخصصات لنصل إلى حل لهذه المشكلة”.
ولعل هذا المرض الغامض في شرق أفريقيا يوفر لنا الأدلة التي تقودنا إلى اكتشاف علاجات لأمراض عديدة أخرى في العالم. لكن بولانين ينبه إلى مخاطر التعامل مع المآسي الإنسانية في سياق طبي بحت.
اقرأ أيضاً :