جدري القرود يصبح حالة طوارئ عالمية
بعد تصاعد الأنباء عن تزايد حالات فيروس جدري القرود حول العالم، تزايدت المخاوف من تكرار سيناريو جائحة “كوفيد19” المرعب؛ فالعالم لم يتخلص بعد من كابوس وباء كورونا، الذي لايزال يمثل حالة طوارئ صحية تستدعي اهتمامًا دوليًا، خاصة مع ارتفاع الإصابات مرة أخرى في أوروبا والصين، بالتزامن مع ظهور متحورات جديدة للفيروس.
وبعد جدل بين أروقة المنظمة الأممية، أعلنت المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم جيبريسوس، السبت، أن تفشي جدري القرود سريع الانتشار يمثل حالة طوارئ صحية على مستوى العالم.
جيبريسوس أضاف في مؤتمر صحفي: “قررت إعلان حالة طوارئ صحية ذات بعد دولي” بمواجهة جدري القرود، موضحا أن الخطر في العالم معتدل نسبيا باستثناء أوروبا حيث يعتبر مرتفعا.
ويهدف وصف منظمة الصحة العالمية لجدري القرود بأنه “حالة طوارئ صحية عامة ذات اهتمام دولي” إلى دق ناقوس الخطر بأن هناك حاجة إلى تعامل دولي منسق ويمكن أن يطلق التمويل والجهود العالمية للتعاون في تبادل اللقاحات والعلاج.
لكن في الوقت ذاته خفف من وطأت هذا الإعلان قائلا: “على الرغم من أنني أعلن حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقا دوليا، إلا أن هذا التفشي يتركز في الوقت الحالي بين الرجال المثليين، وخاصة أولئك الذين لديهم شركاء متعددون”.
خريطة انتشار جدري القرود حول العالم تكشف عن تسجيل أكثر من 16 ألف إصابة في 68 بلدًا لم يسبق أن انتشر فيها المرض من قبل، منذ ظهوره مجددًا في مايو 2022، بخلاف 6 بلدان يستوطنها المرض في وسط وغرب أفريقيا منذ سبعينات القرن الماضي، فضلا عن 5 وفيات بالمرض في أفريقيا.
بالنظر إلى الخريطة التي وضعتها المراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) حسب الحالات المبلغ منها من قبل الدول حتى الساعة، نجد أن معظم الإصابات في أوروبا، فيما كانت أعلى 5 دول تسجيلا للإصابات إسبانيا مع تسجيلها 3125 إصابة، تليها الولايات المتحدة (2890) والمملكة المتحدة (2208) وألمانيا (2268) وفرنسا (1567)، في المقابل تم رصد حالات قليلة في أفريقيا وآسيا.
هذا المرض ليس بجديد، فمنذ 1970 أبلغت 11 دولة أفريقية عن حالات إصابة بشرية بجدري القرود، لكن التطور حدث منذ مايو الماضي عندما ظهر المرض لأول مرة خارج دول غرب ووسط أفريقيا التي يستوطنها الفيروس.
هذا المرض ليس بجديد، فمنذ 1970 أبلغت 11 دولة أفريقية عن حالات
لكن ما يبعث على القلق أن هذا التطور الذي حدث، ربما يكون مشابها لظهور كورونا في الصين لأول مرة في أواخر 2019، لينتشر بعدها النار في الهشيم حول العالم، ورغم أن أعداد الإصابة بجدري القرود حتى الآن لا تقارن بكورونا، لكن المخاوف تتزايد، لأن هذا المرض بدأ ينتشر للمرة الأولى في دول لم يسبق لواطنيها المصابين السفر حتى إلى أفريقيا، وهذا ليس معروفًا على الأنماط السابقة من جدري القرود.
هذه المخاوف المشروعة جعلت البعض يتساءل: هل يتحول جدري القرود إلى حالة طوارئ عالمية مثلما حدث مع وباء كورونا؟
سيناريو كورونا.. هل يتكرر؟
رغم أن عدد حالات جدري القرود مرشح للزيادة، إلا أن خبراء الصحة يقولون إنه من غير المرجح أن يكون لجدري القرود سيناريو مشابهًا لسيناريو كورونا. هذا ما توقعته الدكتورة ماريا فان كيركوف، القائدة الفنية في برنامج الطوارئ الصحية التابع لمنظمة الصحة العالمية، مشيرة إلى أنه مع توسع المراقبة، نتوقع رؤية المزيد من الحالات، لكننا بحاجة إلى وضع هذا في السياق لأنه ليس كورونا.
ووافقتها الرأي عالمة الأوبئة والصحة العالمية كاثرين جاكوبسن أستاذة الدراسات الصحية بجامعة ريتشموند الأمريكية، مؤكدة أن المرض يصبح جائحة فقط عندما يتحقق شرطين أساسيين هما: انتشار حالات الإصابة على مستوى العالم ويكون عدد الحالات التي يتم تشخيصها كبيرًا بما يكفي لصيبح وباء، وأن الوباء يتميز بحالات جديدة من المرض تحدث بمعدل أعلى من المعتاد وفي عدة مجتمعات على الأقل.
“جاكوبسن” اعتبرت أن جدري القرود لم يلب بوضوح هذين الشرطين، والأهم من ذلك، أن الأدلة الحالية تشير إلى أنه من غير المرجح أن يتحول المرض إلى جائحة عالمية حتى لو انتشر الفيروس وأصبح وباءً.
ولتقييم الوضع الحالي، من المهم أيضًا النظر في مقدار انتقال العدوى في المجتمع، فإذا أصيب مئات الأشخاص بعد حضور حدث واحد، مثل حفلة موسيقية أو مهرجان، فسيتم تصنيف ذلك عادةً على أنه تفشي، لكن لن يصبح الوضع وباءً إلا إذا بدأت العدوى تحدث بين العديد من الأشخاص الذين لم يكونوا على اتصال وثيق بالحاضرين في الحدث، وبمجرد أن يبدأ حدوث انتقال واسع النطاق ومستدام للمرض في المجتمع، يصبح من الصعب للغاية السيطرة على الفيروس وهو ما لم يحدث حتى الآن، فالنمط الحالي للانتشار ربما يكون كافيًا لتصنيف جدري القرود على أنه تفش وليس وباء.
ووفقا لنمط الانتشار الأخير لجدري القرود، فإن معظم الحالات رجال مثليّون جنسيًا، وشباب نسبيًا، حسب منظمة الصحّة العالمية.
هذه الملاحظة أكدتها أيضًا دراسة عالمية نشرت مؤخرا، في دورية “New England Journal of Medicine” هي الأكبر عن هذا الموضوع وتستند إلى بيانات من 16 دولة مختلفة، أن الغالبيّة العظمى أو 95% من الحالات الحديثة تم نقلها أثناء اتّصال جنسي، وأنّ 98% من الحالات سُجّلت لدى رجال مثليّين وثنائيّي الجنس.
عدوى جدري القرود وكورونا
العدوى بوابة انتشار المرض، وبالنظر إلى كورونا، فإننا نجد أنه خلال بضعة أشهر من ظهوره لأول مرة في ووهان بالصين، فإن الفيروس عبر حدود البلدان والقارات ليتحول إلى أسوأ جائحة منذ بداية القرن الحالي، وذلك بسبب طبيعة الفيروس التاجي الذي ينتمي لفيروسات الجهاز التنفسي التي تنتشر بسهولة عبر الهواء، ومن خلال ملامسة الأسطح ومخالطة المصابين.
لكن في المقابل، فإن جدري القرود لا يزال محدودًا بالمقارنة بكورونا، ربما يعود ذلك لطبيعة انتشاره، حيث ينتقل إلى الإنسان من خلال المخالطة الوثيقة لشخص أو حيوان مصاب أو مواد ملوثة بالفيروس، أو من خلال الملامسة الوثيقة للقروح وسوائل الجسم والأدوات الملوثة مثل الفراش، لذلك فإنه يعد أقل عدوانية بكثير من سلالات كورونا، كما أن جدري القرود أقل فتكًا بحياة المصابين من كورونا، حيث تكشف الأرقام خلال التفشي الحالي أن معدلات الوفاة تبلغ أقل من حالة وفاة واحدة لكل 1000 حالة إصابة.
وإجمالا، فإن أعراض جدري القرود وأبرزها الحمى والطفح الجلدي أو البثور، بالإضافة إلى الصداع والإحساس بالوهن وتضخم الغدد الليمفاوية، تختفي من تلقاء نفسها في غضون أسابيع قليلة، ولكن قد تؤدي لدى بعض الأفراد إلى حدوث مضاعفات طبية بل إلى الموت، إذ قد يتعرض حديثو الولادة والأطفال، والأشخاص المصابين بنقص المناعة الكامن لخطر الإصابة بأعراض أكثر خطورة والموت بسبب جدري القرود.
وتشمل المضاعفات الناتجة عن الحالات الشديدة من جدري القرود الالتهابات الجلدية والالتهاب الرئوي والتشوش والتهابات العين التي يمكن أن تؤدي إلى فقدان البصر.
لقاح وعلاج
نقطة أخرى مهمة أيضًا ربما تساهم في الحد من انتشار المرض، وهي توافر العديد من اللقاحات للوقاية من المرض، حيث وافقت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) في 2019 على لقاح يطلق عليه اسم “جينيوس” (Jynneos) تم تطويره للقضاء على الجدري، وقد ثبت من الدراسات أن التطعيم فعال بنسبة 85% تقريبًا في الوقاية من جدري القرود، وفق منظمة الصحة العالمية.
ويمكن للقاح أن يعمل قبل وبعد التعرض لجدري القرود، فإذا تلقى شخص كان على اتصال وثيق بحالة مصابة مصابة، الجرعة الأولى من اللقاح على الفور، فقد يساعد ذلك في تقليل أعراض المرض، وفق (CDC)، فيما تؤخذ الجرعة الثانية من اللقاح بعد 4 أسابيع من الأولى.
وقبل أيام، وافقت وكالة الأدوية الأوروبّية على استخدام هذا اللقاح لمواجهة انتشار جدري القرود، وبات هذا اللقاح مستخدمًا بالفعل لهذا الغرض في كثير من البلدان الأوروبية، بما في ذلك فرنسا.
ويتم تسويق هذا اللقاح تحت اسم “جينيوس” في الولايات المتحدة، بينما يطلق عليه في أوروبا اسم “إيمفانيكس” (Imvanex).
وعلى مستوى العلاج، فإن جدري القرود يتضمن بشكل عام إدارة أعراض المرض، لكن الوكالة الأوروبية للأدوية رخصت في 2022 عقارًا مضادًا للفيروسات يُعرف باسم “تيكوفيرمات” (Tecovirimat) لمعالجة جدري القرود.
كيف نحمي أنفسنا؟
ومع تزايد الحالات، تبقى التوعية هي الوسيلة الناجعة لمواجهة المرض. ولتقليص خطر الإصابة، نصحت منظمة الصحة العالمية بالابتعاد ما أمكن عن الاختلاط بالأشخاص الذين يُشتبه في إصابتهم بجدري القرود أو تأكدت إصابتهم به، وإذا كان لابد من مخالطة شخص مصاب بجدري القرود بحكم أنك عامل صحي أو تعيشان معًا، فعليك أن تحثّ الشخص المصاب على عزل نفسه وتغطية أي بثور جلدية إذا كان ذلك ممكنًا، وإذا كنت قريبًا منه جسديا، فيجب أن يرتدي قناعًا طبيًا، خاصةً إذا كان يسعل أو لديه بثور في فمه.
كما نصحت أيضا بضرورة ارتداء قناع، وتجنب التلامس الجلدي قدر الإمكان واستخدم القفازات الأحادية الاستعمال في حالة لمس البثور مباشرة، وارتداء قناع أيضا عند لمس أي ملابس أو فراش يعود للمصاب إذا كان لا يستطيع فعل ذلك بنفسه.
وتمثل النظافة الشخصية سلاحا فعالا أيضًا، فتطهير اليدين بانتظام بالماء والصابون أو بمطهر كحولي يفي من المرض، خاصة بعد لمس الشخص المصاب وملابسه وملاءات السرير والمناشف والأشياء أو الأسطح الأخرى التي لمسها أو التي ربما لامست طفحه الجلدي أو إفرازاته التنفسية مثل الأواني والأطباق.
وأخيرًا، رغم إعلان جدري القرود حالة طوارئ عالمية، من المستبعد أن يتفشى الفيروس على طريقة جائحة كورونا، لكن هذا لا يمنع من الحذر وتطبيق الإجراءات الاحترازية والوقائية لأنها السبيل الوحيد الذي يقينا من المرض، بالإضافة إلى ضرورة التعاون الدولي لتبادل اللقاحات والعلاجات المضادة للمرض كما حدث مع جائحة كورونا.