هل المضادات الحيوية خطيرة على صحة أطفالنا؟
- المضادات الحيوية في الصغر تؤثر على الجهاز الهضمي والعصبي
- علاج البرد والأنفلونزا بالمضادات الحيوية خطأ شائع
- “الجراثيم الخارقة” تقتل أكثر من 5 ملايين شخص سنوياً
تعتبر المضادات الحيوية أحد أبرز العقاقير المُنقذة للحياة، لفاعليتها في مكافحة العدوى البكتيرية التي يمكن أن تكون مميتة، إضافة لدورها في تقليل المضاعفات المَرَضية الخطيرة.
لكي نعرف أهميتها في حياتنا، يكفي أن نقول أن المضادات الحيوية، شكَّلت علامة فارقة في تاريخ الطب، باعتبارها أحد أبرز الاكتشافات العلمية.
قبل اختراعها كان الناس يموتون بسبب عدوى بكتيرية طفيفة، مثل التهاب الحلق، وكانت العمليات الجراحية أكثر خطورة أيضًا، لكن بعد أن أصبحت تلك العقاقير متاحة على نطاق واسع في أربعينيات القرن الماضي، زاد متوسط العمر المتوقع للبشر، وأصبحت العمليات الجراحية أكثر أمانًا، وأصبح بيد الأطباء سلاحًا فعلاً يواجهون به عدوى البكتيريا المُميتة.
أخطاء شائعة
في المقابل، فإن هذه العقاقير السحرية تعتبر سلاحاً ذو حدين، ويمكن أن يكون ضررها أكبر بكثير من نفعها، إذا أسيئ استخدامها.
هذا السلاح يُساء استخدامه في كثير من الأحيان، عندما نتناول مضادات الحيوية دون وصفة طبية، أو نعطيها لأطفالنا دون وصفة طبية؛ لسبب بسيط هو إصابتهم بنزلة برد على سبيل المثال، وذلك طمعًا في العلاج السريع، وهذا خطأ شائع.
هناك خطأ آخر شائع، حذّرت منه دراسة حديثة، وهو إعطاء المضادات الحيوية بشكل روتيني للأطفال الخُدّج الذين يولدون قبل الأسبوع 37 من الحمل، ومنخفضي الوزن عند الولادة للوقاية وليس للعلاج من الالتهابات، مؤكدة أن ذلك .
هذا الاكتشاف توصل إليه فريق البحث من قسم التشريح وعلم وظائف الأعضاء بجامعة ملبورن الأسترالية، إذ حذّر الفريق من أن المضادات الحيوية التي تُعطى لحديثي الولادة لها تأثيرات طويلة الأمد تؤدي إلى اضطراب وظيفة الجهاز الهضمي، بما في ذلك سرعة الحركة عبر القناة الهضمية، وأعراض تشبه الإسهال في مرحلة البلوغ.
للوصول إلى نتائج الدراسة، أجرى الباحثون تجاربهم على الفئران بإعطائها جرعة فموية من عقار “فانكومايسين” (هو مضاد حيوي يستعمل لمكافحة العدوى النّاتجة عن البكتيريا إيجابية الجرام) كل يوم خلال الأيام الـ10 الأولى من حياتها، وتم فحص أنسجة أمعائها لقياس هيكلها ووظيفتها وميكروباتها وجهازها العصبي، ووجدوا أن لها تأثيرات سلبية على الجهاز الهضمي والعصبي.
“الميكروبيوم” في خطر
ينطوي سوء استخدام المضادات الحيوية على أخطار صحية كبيرة، أبرزها أن تلك العقاقير تُؤخذ عادة لقتل العدوى البكتيرية، في المقابل، فإنها إذا أُسيء استخدامها، وأخذت لغير الغرض المخصص لها، فإنها تقتل بكتيريا أخرى في الجسم مفيدة للغاية وهي البكتيريا النافعة.
للعلم، فليس كل بكتيريا ضارة، إذ تعيش ملايين المليارات من الكائنات الدقيقة، وهي في الغالب تكون بكتيريا داخل أمعائنا، وتُنشئ نظامًا بيئيًّا متناهي الصغر يُطلَق عليه اسم “الميكروبيوم” أو بكتيريا الأمعاء النافعة، هذا النظام يؤدي دوراً بالغ الأهمية في الحفاظ على صحتنا وجهازنا المناعي، ومدى إصابتنا بالأمراض، إضافة إلى دوره في عملية الهضم.
وعندما نتناول المضادات الحيوية، وخاصة عند الصغر، فإننا نقتل عن غير قصد بعض من تلك البكتيريا.
للوهلة الأولى، يبدو أن هذه لن يسبب مشكلة كبيرة وأن ذلك يمكن تعويضه، لكن إذا عرفنا الحقيقة يجب أن نشعر بالقلق، لأن الميكروبيوم الخاص بنا، والذي ينمو في وقت مبكر من حياتنا، مهم جدًا، ويمكن أن يكون له تأثيرات تستمر مدى الحياة إذا تعرض للأذى عن طريق المضادات الحيوية.
وفي حديث خاص لـ”أخبار الآن” تعليقاً على النتائج، قال خايمي فونج قائد فريق البحث بجامعة ملبورن: “نحن متحمسون جداً لنتائج دراستنا التي تظهر أن المضادات الحيوية التي تُعطى بعد الولادة يمكن أن يكون لها تأثيرات طويلة الأمد في الجهاز العصبي المعوي للأطفال”.
وعن حجم الأزمة، أضاف: “يتلقى الأطفال الرُضّع والصغار أعلى معدلات التعرض للمضادات الحيوية على مستوى العالم، ولكن لم يُعرف الكثير عن تأثيرات المضادات الحيوية التي تُعطى مباشرة بعد الولادة”.
وتابع في حديثه الخاص لـ”أخبار الآن”: “تعد المضادات الحيوية المبكرة من مسببات اختلال الميكروبيوم الرئيسية، لأنها تزيد من قابلية الإصابة بعدوى الأمعاء وتساهم في الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي المزمنة، وتقدم دراستنا دليلاً ملموساً على أن المضادات الحيوية التي تُعطى مباشرة بعد الولادة تنتج تغيرات دائمة في الميكروبيوم، ووظيفة الأمعاء التي من المحتمل أن تؤثر على الناس طوال حياتهم”.
وما يترتب على ذلك بالنسبة للبشر، وفق “فونج”، هو أن الأطفال الذين عولجوا بالمضادات الحيوية قد يكبرون ويعانون من مشاكل في الجهاز الهضمي. علاوة على ذلك، يجب أن تُؤخذ نتائج دراستنا في الاعتبار عند وضع أنظمة العلاج لأنه يجب توخي الحذر مع العلاج بالمضادات الحيوية إذا لم يكن المرض شديدًا أو يهدد الحياة لمنع العواقب غير المقصودة على ميكروبيوم الأمعاء.
واعترف بأن هناك قيود على نتاج البحث، فعلى الرغم من أن الفئران هي نماذج ذهبية قياسية لدراسات الجراثيم والجهاز العصبي ولديها أوجه تشابه مع البشر، إلا أنها تولد بأحشاء غير ناضجة أكثر من البشر وتتمتع بنمو أسرع بسبب فترات حياتها الأقصر، لكنه أشار إلى أن الفريق سيواصل بحثه لاستكشاف الآليات الكامنة وراء تفاعل المضادات الحيوية مع مايكروبيوم الأمعاء لدى الأطفال الصغار، خاصة تأثير المضادات الحيوية على نشاط الاتصال بين الخلايا العصبية، بالإضافة إلى ذلك، سيركز الفريق على بحث تأثير تناول المضادات الحيوية في وقت مبكر من العمر، على التمثيل الغذائي ووظائف المخ.
هناك ضرر آخر لتناول المضادات الحيوية في الصغر، حذّرت منه دراسة أخرى كشفت أن الرضع والأطفال الصغار الذين يتناولون المضادات الحيوية هم الأكثر عرضة لخطر السمنة في وقت لاحق من حياتهم، وذلك بعد مراجعة بيانات أكثر من 300 ألف طفل، تلقوا المضادات الحيوية الموصوفة خلال أول سنتين من عمرهم، حيث ثبت أنه كلما طالت مدة تعاطي الأطفال المضادات الحيوية، ارتفعت فرص إصابتهم بالبدانة بنسبة 26%.
كادي نيلوند من جامعة العلوم الصحية في ميريلاند، وقائد فريق البحث يقول: “هناك الكثير من المضادات الحيوية غير الضرورية التي توصف للأطفال الرضع الذين قد لا يحتاجون إليها، لأشياء مثل نزلات البرد الشائعة، لذلك، يجب أن نكون حذرين بشأن الأدوية التي تسبب خطر السمنة، لأن الذين يعانون من السمنة المفرطة في مرحلة الطفولة عادة ما يزيد وزنهم في مرحلة البلوغ، ما يعرضهم لخطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم والسكري ومشاكل القلب”.
تحذير من مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية
التحذير من تأثيرات الاستخدام الخاطئ للمضادات الحيوية، يجدد الحديث دائماً عن خطر الإصابة بمقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية.
ويجب التأكيد على أن كثرة التعرض للمضادات الحيوية دون داع، يزيد فرص إصابة الأطفال والبالغين بعدوى البكتيريا المقاومة للعقاقير، ويجعل هذا السلاح غير مجد وقت الحاجة، ويقلل من فعاليتها ويتيح الفرصة للبكتيريا بتطوير مناعة مضادة لها.
ولشرح خطورة ذلك ببساطة، فإن بعض المضادات الحيوية المستخدمة بوصفها علاجات أساسية لحالات العدوى البكتيرية صارت لا تؤدي وظيفتها الآن كما ينبغي، وبعض هذه الأدوية لا ينجح تمامًا في التصدي لبعض أنواع البكتيريا. وعندما لا ينجح أحد المضادات الحيوية في التصدي لسلالات بكتيريا معينة، تُعرف هذه البكتيريا بأنها مقاوِمة للمضادات الحيوية.
وخلال العقود الماضية عدّلت البكتيريا والميكروبات تركيبها الجيني لتكتسب مقاومة شديدة ضد المضادات الحيوية، وأصبحت على حد وصف منظمة الصحة العالمية “تشكّل تهديداً عالميّاً للصحة والتنمية، وتستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة متعددة القطاعات بشأنها”.
المنظمة أشارت إلى أنه “في حالة الاستمرار في استخدام المضادات الحيوية بلا هوادة، ودون اعتبار للضرورات التي يستوجبها هذا الاستخدام، فإن العودة للفترات التي سبقت هذه المضادات غير مستبعد، لأن حتى الجراثيم العادية نفسها قد تصبح قادرة على مقاومة هذه المضادات؛ ما يجعلها لا تستجيب للعلاج بها”.
خطورة البكتيريا المقاومة للعقاقير تكمن في زيادة مدة العدوى، وزيادة حدة الأعراض وزيادة فرص حدوث مضاعفات، بالإضافة إلى زيادة عدد مرات زيارة الطبيب، وزيادة عدد أيام الحجز بالمستشفيات، وارتفاع عدد الوفيات بسبب العدوى البكتيرية المقاومة للمضادات الحيوية.
دراسة عالمية نشرت مطلع العام الجاري، دقت ناقوس الخطر من أن الوفيات من جراء “الجراثيم الخارقة” المقاومة للمضادات الحيوية قفزت بنسبة 600% خلال 5 سنوات فقط، لتصل إلى أكثر من 5 ملايين وفاة سنويا حول العالم، وأن هذا الرقم كان 700 ألف فقط قبل 5 سنوات، محذرة من إنه إذا استمرت “الجراثيم الخارقة” في الانتشار، فمن الممكن أن يتضاعف هذا الرقم أكثر.
أمراض لا تحتاج لمضاد حيوي
المضادات الحيوية هي أدوية تستخدم عادة لعلاج أو منع بعض أنواع الالتهابات البكتيرية، وبالتالي هي ليست فعالة ضد الالتهابات الفيروسية مثل نزلات البرد أو الإنفلونزا، وفي معظم الحالات، فإن نزلات البرد لا تُتبع بالعدوى البكتيرية، ويمكن الشفاء منها دون تناول المضادات الحيوية، بل على العكس فإن المضاد الحيوي يهاجم البكتيريا النافعة الموجودة في الجسم وقد يخلق فرصة لأن تحل بكتيريا ربما تكون ضارة محل البكتيريا النافعة، كما قد يؤدي إلى الإصابة بالعدوى التي تسببها البكتيريا المقاومة للعقاقير، بالإضافة إلى التأثيرات الجانبية الأخرى أيضًا وعلى رأسها الإسهال والطفح الجلدي.
هناك أخرى من العَدوى الفيروسية الشائعة لا يساعد استخدام المضادات الحيوية في علاجها، وفق عيادات “مايو كلينيك”، وهي التهاب القصبات، ومعظم أنواع السعال، وبعض التهابات الأذن، وبعض التهابات الجيوب الأنفية، بالإضافة إلى فيروس كورونا، والسُّعال الديكي.
كيف نستخدم المضادات الحيوية بصورة صحيحة؟
نلجأ للمضادات الحيوية عادة عند الإصابة بالعدوى البكتيرية؛ لذلك يمكننا ببساطة أن نتّقى إصابة أنفسنا وأطفالنا بتلك العدوى عبر مجموعة من الإجراءات أبرزها، الاهتمام بغسل اليدين بصورة صحيحة، ونظافة الطعام والشراب، والابتعاد عن الطعام غير المطهو جيداً أو غير معلوم المصدر، وحفظ الطعام في درجة حرارة مناسبة، وتفقده جيدًا قبل التناول للوقاية من خطر التسمم الغذائي، بالإضافة إلى الفصل بين الأطفال في حال إصابة أحدهم بأي عدوى.
لا ننسى أيضًا أن الحصول على جميع التطعيمات الموصى بها يقينا من خطر الأمراض الفيروسية، كما يحمي من العدوى البكتيرية، مثل الخناق والسعال الديكي.
وتحت أي ظرف لا نتناول المضادات الحيوية أبدًا دون وصفة طبية، ولا يجب أن نضغط على الطبيب لإعطاء المضادات الحيوية لأطفالنا.
وعندما يصفها الطبيب لنا، لابد أن تناول الكمية اليومية الموصوفة، ونكمل العلاج حتى إذا شعرنا بتحسن قبل انتهاء الجرعة، وأن نتخلص من باقي المضاد الحيوي بعد انتهاء كورس العلاج، وأن لا نتناول المضادات الحيوية المتبقية مطلقًا لمرض لاحق، فقد لا تكون مناسبة لعلاج المرض الحالي، ومن المحتمل ألاّ تتضمن دورة علاج كاملة، ولا نستخدم المضاد الحيوي الذي وصفه الطبيب لشخص آخر حتى لو تشابهت الأعراض.
هذه الخطوات، ستحافظ على فعالية المضادات الحيوية، وتحمينا جميعا من العَدوى المقاومة للعقاقير، وتجنبنا الآثار الجانبية الناتجة عن سوء استخدام تلك العقاقير.
ختاماً، فإن المضادات الحيوية سلاح فعال ضد العَدوى، ومن المهم أن نحتفظ بخزنة هذا السلاح عامرة، ولا نفرغها في الهواء دون داع، حتى نجدها “فعالة” إذا لجأنا إليها عند الحاجة المُلحة، وبذلك لن ننقذ حياتنا فقط؛ بل سنحافظ على حياة سكان الأرض أجمعين، فالخطر مشترك والتهديد واحد والمسؤولية تقع على عاتق الجميع.