انقلاب ميانمار لم يكن مفاجئاً، لكنه أثار دهشة كبيرة كونه إنقلاباً على الشركاء في الحكم، وهو أتى بعد أشهر من الجدلِ حولَ المخالفاتِ المزعومةِ في الانتخاباتِ العامة في الثامن من نوفمبر الماضي.
مستغلاً عوامل عديدة، داخلية وخارجية، ومستنداً إلى المادة 417 من الدستور، الذي صاغه الجيش لعام ألفين وثمانية، قاد الجنرال مين أونج هلاينج ثالث انقلاب في البلاد، منذ الاستقلال عن بريطانيا عام ألفٍ وتسعِ مئةٍ وثمانية وأربعين، ما مكّنه من انتزاعِ السلطةِ الكاملة لإنشاء دكتاتورية فورية.
وبذلك، وجدت مستشارةُ الدولة ووزيرة الخارجية أونغ سان سوكي، التي دافعت عن الجيش في محكمة العدلِ الدولية في قضية الروهينغا الشهيرة، تقفُ خلفَ القضبان، من دون أن يكونَ لها شفيعٌ في أوساطِ الجنرالات.
فمن هو قائد الانقلاب الثالث؟
ولد مين أونغ هلاينج في مدينة داوي الجنوبية في العامِ 1956، درس القانون في يانغون قبل أن يلتحق بالجيش في العام 1974، في محاولته الثالثة.
وقال نيكولاس كوبيل، سفيرُ أستراليا السابق في ميانمار، إن الجنرال ليس مستمعاً، إنه يتحدث ويستمعُ الآخرون، مضيفاً أن أسلوبَ إدارة الرجل الضخم يُفضي إلى الجهل والغطرسة. وفي العام 2016، أخّر هلاينج تقاعدَه لمدة خمسِ سنوات، ما أكّد أنّه فالٌ سيء.
كان مين أونغ هلاينج يُعتبر ضابطاً غيرَ بارز، إلى أن تولى في العام ألفين وإثنين القيادة في ولاية شان، فأثار إعجابَ الجنرال ثان شوي، فيما معركتُه في العام 2009 في منطقة كوكانغ المتاخمة لمقاطعة يونان الصينية، رتفعت أسهمَه.
تعثرت عملية السلام تلك في ظل حكومة سو كي المدنية، وازدادت حدّة الأعمال العدائية، فاكتسب مين أونغ هلاينج شهرةً عالمية في أغسطس العام ألفين وسبعة عشر، عندما أجبرت حملته الوحشية أكثر من سبعِ مئةٍ واربعين ألفاً من الروهينغا اليائسين، كانوا يعيشون في ولاية راخين غرباً، على عبور الحدود إلى بنغلاديش. وتحدثت منظماتٌ أممية عن أدلة على صارخة على أن حملة هلاينغ مارست تطهيراً عرقياً، وانطلقت دعوات لمحاكمته.
لم تكن علاقة هلاينغ بسوكي على ما يرام، إذ كان يشوبها الاضطراب دائماً، ودوافع الانقلاب لديه كانت، الأخطاء في في القوائم الانتخابية في الإنتخابات الأخيرة. ويقول محللون إن هلاينغ كان يأمل أن يصبح رئيسًا بعد بلوغه سن التقاعد هذا العام، لكن تقدم الرابطة الوطنية للديمقراطية بزعامة سوكي قضت على هذا الطموح، فقرر اختصار الطريق والانقلاب.
وأعاد الانقلاب العسكري الذي قاده قائد القوات المسلحة في ميانمار “مين أونغ هلينغ” الاسبوع الماضي، ملف الروهينغا إلى الساحة الدولية، وما يرافقه من اضطهاد لتلك الأقلية التي عانت الويلات خلال السنوات الماضية.
واعتقلت الزعيمة “أونغ سان سو تشي” التي باركت يوماً قتل آلاف الروهينغا، عندما استولى الجيش على السلطة. ووجهت الشرطة في ميانمار تهما عدة لسو تشي المسجونة احتياطيا حتى 15 فبراير. ولم تسمع أي أخبار عنها ولا عن الرئيس “وين مينت” منذ وقوع الانقلاب.
ولكي نفهم المشهد في ذلك البلد بصورته الحقيقية لا بد من العودة إلى الأحداث التي رافقت قتل وتشريد مئات الآلاف من أقلية الروهينغا، بسبب ارتباط تلك الأحداث بالزعيمة التي تقبع خلف القضبان “أونغ سان سو تشي” وكذلك بقائد الانقلاب العسكري “مين أونغ هلينغ”.
منذ أواخر أغسطس عام 2017، غادر أكثر من 600 ألف من الروهينغا ميانمار، هربًا من حملة العنف التي تقودها الدولة ضدهم. الروهينغا هم أقلية مسلمة يعيشون بغالبيتهم في ولاية “راخين” في غرب ميانمار. أفراد تلك الأقلية عانوا من التمييز لسنوات.
يدور التفسير الأكثر شيوعًا لاضطهاد الروهينغا حول جنسيتهم، إذ يزعم المسؤولون الحكوميون والإعلاميون والزعماء الدينيون أن الروهينغا مهاجرون غير شرعيين من بنغلاديش. يلعب العرق دورًا أيضًا. تعترف الحكومة رسميًا بـ 135 مجموعة عرقية أصلية، ويمنح دستور ميانمار لعام 2008 تلك الجماعات حقوقًا معينة دون أن يعترف للروهينغا بأية حقوق.
تجييش ضد الروهينغا
ولطالما ارتبطت الهوية الوطنية في ميانمار بالهوية الدينية البوذية، وهو الأمر الذي سهل على النخب في ذلك البلد تصنيف الروهينغا على أنهم إرهابيون، وبالتالي يتوجب على المسؤولين الحكوميين الدفاع عن العنف ضدهم كرد مشروع على التطرف. كما حاول صانعوا السياسة في ميانمار الاستفادة من الهجمات التي شنها “جيش إنقاذ روهينغا” على أهداف حكومية في أكتوبر 2016 وأغسطس 2017 مبررين تلك الهجمات على أنها تنبع من معتقدات متطرفة، رابطين جميع الروهينغا بالإرهاب بشكل غير عادل وغير دقيق.
الأحداث السابقة جيشت الحقد تجاه الروهينغا، فنشطت حملة ضدهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والصحافة الشعبية، والرهبان المؤثرين، الأمر الذي دفع مواطنو ميانمار إلى كره الروهينغا ومعاملتهم على أنهم أقلية غير مرغوب فيها في البلاد.
وأورد “ماثيو جيه والتون” وهو مدير مركز الدراسات الآسيوية بجامعة أكسفورد، مثالاً عن التجييش الذي قاده عدد من الرهبان البوذيين ضد الأقلية المسلمة، وكان أبرزهم “سيتاجو سايادو” والذي يحظى بتقدير كبير وشهرة دينية خاصة في ميانمار، إذ يعتبر الكثيرون في البلاد أن تفسيراته للتعاليم البوذية موثوقة، إضافة إلى تمتعه بمكانة عالمية عبر ظهوره المتكرر دوليًا.
بعد اندلاع الجولة الأولى من العنف بين البوذيين والمسلمين في ولاية راخين في عام 2012، سعى سيتاجو إلى تصوير نفسه على أنه باني سلام، حيث شارك في المناقشات بين الأديان عبر منظمة غير حكومية تسمى “أديان من أجل السلام”. وأشاد به المعلقون في الخارج معتبرينه قوة من أجل المصالحة. ومع ذلك، فإن ملاحظات سيتاجو المعتدلة باللغة الإنجليزية تتناقض بشكل صارخ مع خطبه باللغة البورمية، إذ كان يميل إلى تصوير الإسلام على أنه دين عنف ومسلمي ميانمار على أنهم أجانب في بلدهم.
النهج الذي سار الراهب البوذي عليه، بقي راسخاً حتى يومنا هذا، فعلى سبيل المثال يظهر سيتاجو في خطبة في الـ30 من شهر أكتوبر الماضي، بحضور عدد من أفراد الجيش في مدرسة تدريب في ولاية كارين. الراهب ركز في خطبته على تقديم تبرير ديني للقتل الجماعي لغير البوذيين.
Meanwhile, coup leaders taking a blessing from #Sitagu sayardaw. I have long lost respect for this monk since he made a comment about how killing non-buddhists is just. He does not represent #Buddhism. #WhatsHappeningInMyanmar #Coup6feb pic.twitter.com/M0jTL9TDap
— pyaezone (@pyaezone) February 6, 2021
واستنادا إلى قصص من المعتقدات البوذية، صور سيتاجو أن قتل من هم غير بوذيين ليس بالمشكلة الكبيرة، خاصة أنهم وفق معتقداته ليسوا بشرا بالكامل وهو الأمر الذي ينطوي على مخاطرة كبيرة وفق رأي الباحث “ماثيو جيه والتون” وذلك بسبب المكانة الكبيرة التي يتمتع بها الراهب البوذي.
ومن خلال إنكار إنسانية غير البوذيين، حاول سيتاجو نزع أي مشاعر إنسانية للجنود في محاضرته وجميعهم شاركوا في العنف ضد الروهينغا. وسعيًا إلى إعفاء أولئك الجنود من ذنبهم، برر الانتهاكات التي يمكن أن يرتكبها الجيش في المستقبل، هادماً أي محاولة يمكن أن تصل إلى السلام في مينمار.
ويرى “ماثيو جيه والتون” أن البعض قد يجادل بأن خطبة سيتاجو لن يكون لها تأثير ملموس، إلا أن الباحث عاد ليؤكد أنه على مدار سنوات، سعى بعض الرهبان في ميانمار إلى تجريد المسلمين من إنسانيتهم، ومقارنتهم بالحيوانات وتقويض أي نوع من التعاطف قد يقدمه لهم البوذيون، فكيف بسيتاجو وهو ليس مجرد راهب، بل شخصية دينية مؤثرة لدرجة أن كلماته يمكن أن توفر الغطاء الأخير للبوذيين في ميانمار لتجاهل النقد الدولي حول الجرائم المرتكبة بحق الروهينغا.
ويشدد الباحث على أن هذا الاحتمال ليس مخيفا فقط للروهينغا، بل أيضًا للأقليات الأخرى في ميانمار. فعلى سبيل المثال يمكن أن ينتهج سياسيون وعسكريون في نهاية المطاف منطقاً مماثلاً تجاه مجموعات أخرى، مثل “جيش استقلال كاشين”، وهي مجموعة تتكون أساسًا من المسيحيين.
في مقابل ما سبق، يرى “ماثيو جيه والتون” أن خطاب سيتاجو يمكن أن يأتي بنتائج عكسية، ما يرعب البعض على الأقل في ميانمار ويقودهم إلى نبذ العنف المرتكب باسم البوذية. ورغم وجود بعض الأمل إلا أن الواقع يشير إلى أن معظم الناس في ميانمار يخشون التحدث عن معاناة الروهينغا، إضافة إلى دعم المواطنين في الغالب ملاحظات سيتاجو على وسائل التواصل الاجتماعي بالتزامن مع حنق الرأي العام الشديد على الأقلية المسلمة.
ومن اللافت أن تاريخ ميانمار وجيشها لا يبشر بترك العسكريين الحكم بسهولة، وهو الأمر الذي يرجح ازدياد معاناة الروهينغا، الذين عانوا أصلا في حقبة الزعيمة المدنية المعتقلة “أونغ سان سو تشي”، فكيف بعد تسلم البلاد قائد عسكري اشتهر بدمويته، وتصنفه الكثير من المنظمات على أنه مجرم ضد الإنسانية!
هذا الانقلابُ أثار المخاوف لدى الروهينغا، داخلَ ميانمار وفي مخيماتِ اللجوء في بنغلادش، إذ أنهم يحتفظون بذكريات أليمة لمجازرِ الجيش. فتسلمُ الجيش سيزيدُ من معاناتِهم، وهم يصفونَهُ بأنه شخصيةٌ دموية لطالما لعبت على أوتارِ الصراعات الطائفية.
الاتي لا يبشرُ بالخير، لا سيّما وأنّ اضطهادَ الروهينغا يحظى بغطاءٍ ديني من رجالِ الدرين البوذيين، وأبرزُهم سيتاجو سايادو، الذي يحرض على اضطهادِ الروهينغا ويبررُ قتلَ غير البوذيين. مشهدٌ يرسمُ مسقبل قاتماً للروهينغا.