ريف دمشق، سوريا، 29 نوفمبر، تيم العكس، أخبار الآن – 

إنه أمر أشبه بمتابعة فيلم أمريكي من أفلام ما بعد الكارثة، حيث الحياة في عوالم ما تحت الأرض، أو شرايين الحياة للمناطق المحاصرة في الريف الدمشقي، أو ما يسمونه أنفاق الصمود.

كما يصفها أبو معاذ الخريج الجامعي المنتسب لأحد الألوية المقاتلة ضد نظام الأسد في الغوطة الشرقية، تبدو الحرب الحقيقية على مستويين، أحدهما منظور فوق سطح الأرض، وهو موضوع روايات الثورة، وآخر تحت الأرض قلما يتحدث عنه أحد، ثمة عالمان مختلفان بكل ما فيهما، أشخاصهما، وأحداثهما، وتفاصيل اليوميات الخالية من الضوء الطبيعي، حيث الضوء هناك له ميزة مختلفة في العالم السفلي، وكذلك حكايات العابرين في تلك الممرات الإجبارية.

شرايين المدن المحاصرة

بارتفاع مترين تقريباً وبعرض مترين إلى ثلاثة أمتار، مع تدعيم خفيف من الجانبين والسقف، تمتد الأنفاق أحياناً لمسافات تزيد على 500 متر لتربط المناطق المحاصرة بمناطق واقعة تحت سيطرة النظام، لاسيما عند خطوط التماس الحامية، وكثير من هذه الأنفاق يتشعب تحت المدن الصغيرة في الريف الدمشقي، ليصنع مدينة أخرى موازية تحت الأرض يعيش فيها مقاتلو المعارضة كملاجئ آمنة من قصف قوات النظام، فهي مزودة بالإنارة والتهوية الضروريتين، وكذلك بغرف مستودعات للأغذية والأدوية والسلاح الخفيف والذخائر، إنها الحرب تحت الأرض إذاً.

المقاتلون أنفسهم هم من يقومون بحفر هذه الأنفاق، وفي معظم الأحيان بوسائل يدوية بدائية، والمحظوظون منهم من يملكون آلات الحفر الحديثة التي من الممكن أن تنجز بضعة أمتار في اليوم الواحد، ويتم عبرها نقل حاجيات الحياة والموت من أغذية وأدوية وسلاح وذخائر. وربما ينتهي النفق تحت حاجز أو ثكنة لقوات النظام، ليكون نقطة هجوم مباغتة من تحت الأرض، حدث الأمر مرات كثيرة في جوبر والقابون والمليحة، بحيث لم يعد أحد من مقاتلي النظام وشبيحته يشعر بالأمان في أي مكان. 

مبنى إدارة المركبات في مدينة حرستا التي حوله النظام ليكون مقراً للمخابرات الجوية كانت أخر أهداف إستراتيجية الأنفاق المتفجرة في 17/11/ 2013، حيث لم يبقَ منه سوى ركام هائل ترقد تحته أكثر من مئة جثة لقوات النظام، ونجاح هذا النوع من العمليات ـ  كما يبدو ـ  مؤشر على تصاعد هذه الإستراتيجية التي تجعل البقاء على قيد الحياة بالنسبة لقوات النظام مجرد ضربة حظ.

الأنفاق شريان التجارة

حراس الأنفاق عادة ما يكونون من نفس الفصيل المقاتل الذي قام بالحفر، وعليهم تقع مسؤولية تأمين النفق، والتحقق من هويات النشطاء العابرين أو العسكريين. على مدخل أحد أنفاق جوبر، الحارس تحقق من بطاقتي الشخصية رغم معرفته الوثيقة بمرافقي أبو معاذ، وسألني عن وجهتي بالتفصيل وأجرى اتصالاً بشخص على الجانب الآخر ثم سمح لنا بالمرور. يقول أبو معاذ : “هذا نفق نظيف”. ويتابع : “كثير من الفصائل تحتكر حركة المرور وتقوم باستثمار أنفاقها بشكل تجاري”.  فيما بعد صار واضحاً سبب الغلاء الفاحش في أسعار المواد الغذائية داخل الغوطة المحاصرة، حيث يصل سعر ربطة الخبز إلى 1100 ليرة سورية وكيلو البطاطا إلى 1600 ل.س والرز 950 والبرغل 850 والبنزين 2500 ليرة.

سيطرة بعض الفصائل المسلحة للمعارضة على أنفاق محيطة بالغوطة الشرقية هي أحد أوجه الحصار الذي يفرضه النظام على المنطقة. يقول الناشط أبو ياسين وهو من سكان الغوطة: “بعض فصائل المقاتلين هم شركاء النظام في قتلنا جوعاً”، وتابع يردد بيت طرفة بن العبد: “وظلم ذوي القربى أشد مضاضة …”.

وفي رأي مخالف يقول أحد الشباب الذين عملوا سابقاً في حراسة الأنفاق : “ليس بالإمكان أن تستوعب الأنفاق حركة المواد الغذائية إلى الغوطة، لا بد من الحفاظ على سرية مداخلها ومخارجها، وكلما زادت الحركة في النفق، كلما أصبح أكثر عرضة للكشف “.
رغم ذلك، تبقى أسعار المواد الغذائية شاهداً على حصار معقد، وعلى استغلال من قبل تجار تتزايد ثرواتهم سريعاً، لتنشأ طبقة جديدة ستسمى في وقت لاحق ( أغنياء الحرب ).

الأنفاق المهددة دائماً

يقول أحد المقاتلين الذين رافقونا في طريق العودة : ” لا تعرف ما إذا كنت ستصل حقاً أم لا. فالخطر من الانهدام قائم دائماً، ربما بسبب قذيفة أو صاروخ قد ينفجر قريباً من مسار النفق، خصوصاً أن قوات النظام ومخابراته تتابع وتترصد حركة الحفر وأماكن الأنفاق وتقوم بتدميرها.
مع وجود جميع هذه الأنفاق والتي من المفترض أن تشكل شريان حياة المناطق المحاصرة فإن ثمة أنفاقا أخرى فوق الأرض تنعم بشمس النهار بين الحواجز المتجاورة لقوات النظام والجيش الحر، التي يبعد أحدها عن الآخر أحياناً حوالي 300 متر فقط، حيث تزدهر تجارة أخرى بتواطؤ مشوب بالحذر لتبادل بعض المواد، ربما بعض علب التبغ، حين يكون العالم نائماً ولا شيء مستيقظ سوى جمرة سيجارة الجندي على الحاجز والطلقات التي يتردد صوتها قريباً من فراغ الهدنة.