فرعب المعتقلات وقسوتها لا يفارقهم، ومنهم من لا يستطيع البوح بها، وتبقى قدرة عودة المعتقل إلى الحياة اليومية مرهونة بقوة إرادته وتمكنه من تجاوز التجربة.

قصص حبيسة النسيان ..

تتعدد وسائل الظلم والبطش وأساليب التعذيب الذي يتعرض له المعتقل السوري (الدولاب، الشبح، التعذيب بالكهرباء، الإيذاء المعنوي، اكتظاظ المهاجع، قلة الطعام وتلوثه)، كلها تفاصيل تطارد ذاكرة المعتقل بعد خروجه من السجن.

يروي “سعيد الناصر” وهو معتقل سابق لدى فرع الجوية عن المآسي التي خبرها، لاسيما قصة الطفل “معتز” البالغ من أحد عشر عاماً وكان يتودد إليه ويخبره كلما اعتراه الخوف: “بحبك لأنك بتشبه أخي الشهيد كتير”. اعتقل معتز عشوائياً بتهمة أن أخاه مطلوب لقوات الأمن ومتوارٍ عن الأنظار فاعتقلوا أخاه الصغير عوضاً عنه.

ولا يغيب عن ذهن سعيد قصة “عمر” وهو شاب كفيف أصيب برصاصة في عينه أدت إلى فقدان بصره، كل صباح يجلس بجانب سعيد ويقول له: “حاسس أني عم شوف الشمس خليهن يطالعوني بركي بيرجعلي بصري”.

وبعد مرور ما يزيد على سنتين من خروجه من المعتقل تتداعى الذكريات أمامه، فعندما خرج “سعيد” من المعتقل فقد القدرة على التواصل مع الآخرين أول الأمر؛ لكن سرعان ما تأقلم مع نمط الحياة اليومي المتناقض.

“سارة” فتاة اعتقلت مع عشرة أفراد من عائلتها بينهم طفلان، في مكان خاص بتجمع الشبيحة مقابل الإفراج عن ضابط اعتقله الجيش الحر في منطقتها. تقول سارة: “عندما اعتقلونا أدخلونا إلى بيت فيه سيدتان أشرفتا على تعذيبنا وسلبتا منا كل ما نملك من الذهب وكانتا تتعرضان لنا بالألفاظ البذيئة. كان مكاناً أقرب إلى السجن منه إلى البيت وكان أزواجنا يسمعون أصوات صراخنا عندما يقترب أحدهم ليلامسنا حتى أنهم هددونا بالاغتصاب إن لم نخبر عن مكان الضابط المختطف الذي لا نعرف الجهة التي قامت بخطفه”.

اعتقلت سارة وعائلتها ما يقارب الشهرين في هذا المكان حتى تم نقلها إلى فرع أمني قريب منه وتم التحقيق معهم ثم الإخلاء عنهم في صفقة عقدها الجيش الحر مع الجهة الخاطفة.

خرج الضابط وعادت سارة مع أهلها، لكن وجع تلك اللحظات لا زال مستقراً مكانه، لم تنسَ سارة التعذيب بالكهرباء وإطفاء السجائر في جسدها ولم تنسَ لحظات الإهانة والتعرض لها ولشرفها ولجسدها أمام زوجها، لم تنسَ صراخ أطفالها واستنجادهم بها كلما حاولوا أن يبعدوهم عنها.


العودة إلى الحياة ..

لا تثني القصص التي تحدث مع المعتقلين عن عودتهم إلى حياتهم، فهم بالتأكيد يمارسون حياتهم بشكل طبيعي وإن كانت تلك الأحداث لا زالت تطاردهم حتى أن كثيراً منهم عاود عمله بالثورة بشكل أكبر مما قبل الاعتقال، ربما بسبب إيمان كل منهم بقوته وإرادته، وهذا ما تحدث عنه “عامر” من أنه بعد سنة اعتقال في سجن النظام عاود عمله السلمي في إغاثة المناطق المحاصرة وإدخال المساعدات الطبية والغذائية لهم بشكل سري مبرراً ذلك بقوله: “هي ثورة بلد ولازم نكمل، ويلي بصير مع كل إنسان بسوريا هو محطة ليرتاح وينشحن إرادة مو ليوقف”.

ولا يمكن تجاهل من عرضه الاعتقال إلى حياة انعزالية، جعلته يعاني من رعب دائم وخوف ومعاناة من حالات اكتئاب وأمراض نفسية.
 

حكايات لم ترو بعد ..

تبقى مسألة المعتقلين السوريين الكارثة الإنسانية بعيدة المدى في نتائجها، فحتى الآن اعتقلت قوات النظام ما يزيد على 220000 معتقل، بينهم حوالي 4600 امرأة وأكثر من 9500 طفل وفقاً للشبكة السورية لحقوق الإنسان.

كل رقم من هؤلاء يحمل ألف ذاكرة من النسيان ربما لن يمحوها إلا أمل بحرية بلد يلوح بعد أربعين عاماً من الظلم.