لعلها واحدة من أخطر رحلات العصر حين تقرر الذهاب برا من دمشق نحو الشمال السوري حتى تقطع الحدود البرية تهريبا إلى داخل الأراضي التركية.
تبدأ الرحلة من خيارات يقدمها لك أصحابك الذين نجا البعض منهم ودخل إلى تركيا، وتتراوح احتمالات سفرك بين الدخول من عفرين في ريف حلب التي تسيطر عليها الأحزاب الكردية، أو من منبج أيضا في ريف حلب التي يسيطر عليها تنظيم داعش، أو الدخول عن المعابر التركية الرسمية في حال لم تكن فلسطينيا أو لم تكن ترغب في البقاء بتركيا وتفضل السفر منها إلى أوروبا، إذ قد تعطل الإقامة الرسمية في تركيا طلب لجوئك في الدولة الأوروبية التي تنوي السفر إليها.
خيار الدخول تهريبا من عفرين بات أوضح خيارات المقيم في دمشق، حيث تنطلق الباصات ليلا من منطقة ركن الدين باتجاه طريق السفر الدولي الذي يبدأ بحرستا وحواجزها ثم يأتي الحاجز الأخطر وهو حاجز القطيفة وتتوالى بعده الحواجز وصولا إلى حمص، فمدينة السلمية بريف حماة، ثم بعض قرى ريف حماة الخاضعة لسيطرة النظام، فطريق ريف إدلب المحرر، وصولا إلى ريف حلب فعفرين التي تسيطر عليها الأحزاب الكردية.
تبدأ مخاطر حواجز النظام من أول حاجز تلتقيه يقول سالم: "لقد أنزل الحاجز كل الشباب في الباص، وأمرهم بإفراع كافة محتوياته في عملية استغرقت حوالي النصف ساعة، وبعد أن صارت كل الحاجيات على الأرض، أمرنا بإرجاعها إلى الحافلة من دون أن ينظر فيها، وصرخ فينا ما مفاده أننا لم نكن لننجو لولا أننا ذهبنا فداءا لحذاء العميد الذي لم يقتنع مع هذا العسكري إلى الآن أن المواطن السوري يجب أن يداس بالأقدام حسب تعبيره".
وعلى حاجز القطيفة أكثر من يخاف من الركاب هم المتوجهين إلى تركيا، لأن هذا الحاجز يسأل عن تفاصيل رحلة الراكب حتى يتأكد من أنه غير ذاهب لتركيا، قبل أن تبدأ عملية (تفييش) الهويات التي قد تستغرق خمسا وأربعين دقيقة أو ساعة في معظم الأحيان. لكن الركاب سيذهب معظم خوفهم من الطريق فيما لو تمكنوا من العبور على هذا الحاجز المشهور باعتقالاته لأتفه الأسباب.
ومن حاجز القطيفة نحو حواجز حمص، وعلى حسب تعبير أحد سائقي الباصات فإنها قد تعلمت السرقة من حواجز مدينة السلمية في الشهر الأخير، وبات همها الوحيد أن تأخذ ما استطاعت من نقود الركاب، وعلى رؤوس الأشهاد دون خوف أو خجل من أي أية مسائلة قد يتعرض لها العسكري أو الشبيح، يقول فضل: "يطلب العسكري من أكبر عدد من الشبان النزول من الباص مصطحبين دفاتر خدمة العلم معهم، لكن ما أن تنزل من الباص لا يترك العسكري فرصة لأن تريه دفتر خدمة العلم الذي يثبت أنك غير مطلوب للخدمة، إنما يفاجئك بوقاحة الطلب بأن تجمع له من كل راكب ألف ليرة سورية ومن يرفض لن يكون بخير".
أما حواجز مدينة سلمية فإن الاستعراض فيها قد بلغ مداه، حيث أن الخمسة أو الست حواجز الموجودة هناك، والتي تتكاثر ويتضائل عددها على حسب رغبة الشبيحة بإقامة حواجز السلب في هذا اليوم، فإن للسرقة فنونا هناك حيث يصعد الشبيح غلى الباص مبتدأا تمثيليته بالصراخ والشتائم، وينزل من يريد من الباص بحجة انه مطلوب أمنيا وما الغرض إلا مفاوضة هذا الشخص على حياته بأن يدفع مبلغا يقارب الألفي ليرة سورية.
وبعد كم هائل من حواجز النظام في قرى حماة التي يسيطر عليها الأسد، تبدأ حواجز الجيش الحر التي يصعد عناصره للباص بغية التأكد من عدم وجود جنود للنظام أو شبيحة وآليات تفتيشهم تتعلق بالنظر في دفتر الخدمة العسكري ومن يكون موضع شك لديهم يطالبوه بأن يروا هاتفه المحمول وما يحتويه، لكن وإن حصل سوء تفاهم مع أحد العناصر، فستشعر بأنك مواطن يستطيع مجابهة العنصر الذي يمثل الحماية بالنسبة له، فالحديث معهم عقلاني ومنطقي جدا، والأهم أنه مريح وخال من الكذب لأنك غير مجبر بعد الآن لأن تخفي أنك تنوي الذهاب لتركيا، وحتى لو تم استجوابك سريعا على أحد الحواجز، فإنه غالبا ينتهي باعتذار العنصر الذي استجوبك طالما تأكد أنك مدني، أكثر من ذلك عند معرفته أنك غريب عن المنطقة قادم من دمشق، سيطلب لك أن تراجعه في حين تعرضت لأي طارئ أو اعتداء لأنه سيحصل لك حقك كاملا.
تتوالى حواجز الجيش الحر وجبهة النصرة وحركة أحرار الشام في ريف إدلب وصولا إلى عفرين، هناك حيث ستطالعك حواجز لأول مرة تتعرف إليها كونك زائر من دمشق، ألا وهي حواجز الأحزاب الكردية، أعلام متعددة لحواجز متعددة من الصعب أن تميز احدها عن الآخر، فاللغة الشائعة هنا هي اللغة الكردية، يخبرنا صفوان الفلسطيني السوري عن رحلته من دمشق لتركيا: "جلسنا أن وثلاثة من أصدقائي وكنا جميعا فلسطينيين في سيارة المهرب، بعد رحلة استغرقت خمسة عشر ساعة حتى وصلنا إلى عفرين، مررنا على الحواجز بسلام وصولا إلى الحاجز الخامس في طريقنا صوب راجو التي سندخل تهريبا منها إلى تركيا، أوقفنا حاجز لحزب PYD وطلب إلينا بعد نصف ساعة من الانتظار أن نذهب مع مسلح صعد إلى السيارة لمركز الحزب، هناك التقانا أربعة مسؤولين عن المركز وبعد أن عرفناهم بأنفسنا ماذا نعمل ، وإلى أين متجهين، اعتذروا لنا مطولا، وقالوا أن حاجزهم استغرب وجودنا في المنطقة كفلسطينيين وخشي أن نكون من داعش، بعد فرضوا علينا أن نخرج إلى تركيا من المعبر الحدودي الذي يسيطرون عليه".
على الشريط الحدودي ومع مجموعات من السوريين تريد الدخول سرا لتركيا، وبين المهربين الذي يتكلمون اللغة الكردية جميعا، تنتظر أن تهدأ الحدود التركية وأن يلتهي حرس الحدود فتركض عبر بستان بأرض طرية ورطبة مع أمتعتك مسافة أطول من خمسمئة متر، تركض وأنت مرعوب من حرس الحدود الذي قد يطلق النار في الهواء، وقد يطلق النار بغية قتلك، فالموضوع هنا متروك لمزاج العسكري التركي، هناك وبين البلدين سقط حازم مغميا عليه " كنت لأموت لولا أن المهرب ظل يضربني وأنا مصاب بدوار لا أذكر منه إلا شتائم المهرب، وضربه لي، وسحله إياي في آخر الأمتار حين سقطت مغميا علي من التعب"
في الطريق من دمشق لتركيا تجرب كل أنواع الخوف، الخوف من حواجز النظام، كما الخوف من طائراته وقذائفه عندما تكون في الأماكن المحررة، تخاف من الأحزاب الكردية التي لن تعتدي عليك لكنك تخاف لمجرد جهلك بها وعدم احتكاكك اليومي بها، تخاف من دنائة المهرب، وتخاف من حرس الحدود التركي، وأخيرا تخاف من جسدك الذي سيخذلك غالبا في الركض بعد كل هذا الخوف وبعد أن تتذكر أنك مازلت في طريق المخاطر منذ أربع وعشرين ساعة.