ما إن انجلت العاصفة الثلجية التي ضربت سوريا مؤخراً وحصدت ولا زالت تحصد معها أرواح عدد من السوريين تجاوز عددهم حتى اللحظة 35 ضحية، حتى عادت قصص الموت والقهر للتداول مرة أخرى، وكلما كثرت كلما علا صوتها، وكأن السوريين يحاولون بكل ما أوتوا من قهر أسماع العالم مأساتهم.
وباتت بعض تلك القصص أقرب ما تكون إلى الخيال والأساطير التي رويت وبقيت مجرد أسطورة على مر الزمان، فتسمع هنا عن عائلة قضت بأكملها نتيجة القصف، وعن قرى مُسِحَتْ عن وجه الأرض جراء القصف وعمليات التجريف، وترى في كل يوم صوراً لآدميين تغيرت ملامحهم ولم تتعرف أمهاتهم عليهم بسبب نحالتهم وسوء وضعهم الصحي ما أدى إلى تغير ملامحهم نتيجة التعذيب في المعتقلات التي قضوا أشهراً طويلة في أقبيتها، وصوراً أخرى لم يستطع أصحابها البقاء على قيد الحياة لشدة ما مورس عليهم من تعذيب، فقضوا في معتقلات النظام، وتحول الجسد إلى كتلة خاوية لا تكاد ترى فيها سوى العظم والجلد وآثار التعذيب الوحشي الذي تعرض له.
إلى دمشق، نزحت السيدة "أم نزار" البالغة من العمر 42 عاماً مع أبنائها وزوجها منذ قرابة العامين من حي بابا عمرو في حمص بعد احتلال قوات الاسد وشبيحته كامل الحي، وارتكابهم عدة مجازر جماعية فيه مما دفع عدداً كبيراً جدا من الأهالي إلى هجره والنزوح منه حالهم كحال باقي السوريين الذين دمرت مدنهم وقراهم، وعندما وصلت أم نزار إلى دمشق برفقة أولادها وزوجها سارعت إلى تسجيل أبنائها في المدارس والمعاهد والجامعات لمتابعة دراستهم بعد أن استطاع زوجها تأمين عمل بسيط في أحد المكاتب الهندسية يستطيع من خلاله تأمين طعام عائلته ومصروفها وإيجار المنزل بالإضافة للحصول على بعض المساعدات من المؤسسات الخيرية.
وبعد مضي أكثر من عام على تواجدهم في دمشق وبدء التفكير جدياً بالبقاء فيها نظراً لتدهور الأوضاع وانعدام الحلول، وأثناء توجه السيد أبو نزار إلى عمله أواخر العام 2013 اعتقله عناصر أحد الحواجز وتم تحويلة الى الأفرع الأمنية وهو الشي الوحيد الذي استطاعت أم نزار معرفته فيما بعد عن مصير زوجها، بعد أن دفعت كل ما ادخرته من أموال رشاوى لبعض الحواجز والضباط للحصول على معلومات عن مكان تواجد زوجها لكن دون جدوى.
بعد هذه الحادثة بدأت أحوال السيدة "أم نزار" وعائلتها بالتدهور نظراً لغياب المعيل والأثر النفسي العميق الذي تركه اعتقال الزوج، خاصة بعد سماع القصص اليومية المأساوية عما يتعرض له المعتقلون في أقبية النظام، وبدأت الديون بالتراكم على السيدة أم نزار ما دفعها إلى طلب العون من إخوتها الذين التزموا بتسديد إيجار المنزل، فيما اضطر ابنها الاكبر البالغ من العمر 22 عاماً للعمل مع الدراسة لتأمين بعض المستلزمات الأساسية للمنزل، ومرّت الأيام على هذا المنوال دون تحقيق أي تقدم في رحلة البحث التي بدأتها أم نزار علها تستطيع الوصول إلى زوجها، وإخراجه من سجنه لكن آمالها بدأت تتبخر بعد مرور حوالي ستة أشهر على غيابه، وأصبحت تعتاد نوعا ما على عدم وجوده لكن مع بقاء الأمل بعودته في يوم من الأيام، إلا أن الرياح جرت بعكس ما تشتهِ أم نزار تماماً، ففي مطلع الشهر الحالي وبعد توجه نزار إلى عمله فوجئت زوجته باتصال هاتفي من رقم مجهول، وعندما أجابت قام المتصل بتلاوة تحيات زوجها لها ووصيته لها بأبنائها، كما جرى الاتفاق بين الزوج والمتصل، حيث تعاهدا على إبلاغ كل واحد منهم عند خروجه عن صحة الأخر ومكان اعتقاله، وبعد ذلك بدأ يمهد لها لإخبارها باستشهاد زوجها في المعتقل، الأمر الذي شعرت به أم نزار مباشرة، وراحت تبكي بشدة لتقوم ابنتها بمواساتها قبل أن تخرج لإحضار بعض المسكنات من الصيدلية القريبة، لكن الفتاة تأخرت في العودة على غير عادتها ما أشعل قلب الأم خوفاً، حتى جاء أحد الجيران وأخبرها أن الحاجز القريب من الصيدلية قام باعتقال ابنتها بعد تفتيش جوالها وهو ما زاد من مأساتها وحزنها، لكن لم ينتهِ نهار أم نزار عند هذا الحد، فمع غياب شمس اليوم جاءها اتصال آخر من مجهول ليخبرها بأن ابنها قد تعرض للقنص، واستشهد على الفور أثناء توجهه إلى عمله على طريق المطار، وهو ما أدى الى انهيار فوري للأم وأفقدها وعيها، وهو ما دفع أصغر أبنائها إلى طلب العون من الجيران وإسعاف السيدة إلى أقرب مشفى حيث تعرضت لجلطتين دماغيتين خلال ثلاثة أيام ولا تزال في العناية المشددة.
قد تبدو قصة السيدة أم نزار غريبة جداً، لكن تكاد لا تخلو أية بلدة أو قرية أو مدينة سورية من قصص مشابهة، عن فقدان عدد من الأبناء لعائلة واحدة أو نجاة شخص واحد من عائلة مكونة من عشرة أشخاص بعد تعرض الشارع الذي يقطنونه لقصف بالسكود، كما حدث في ريف حلب في 2013 لكن التوقيت كان له دور ليزيد من هول مأساة السيدة أم نزار، حيث لم تكد تنقضي مصيبة لتتبعها أختها، وبعد اعتقال لمدة يومين تم الإفراج عن ابنة السيدة أم نزار التي اتهمت بإجراء مكالمات مشبوهة، وما كانت لتخرج لولا تدخل عدد من وجهاء الحي لدى بعض النافذين في النظام وشرح حالة أمها المأساوية.