لم يكن همّ السورييّن الأوّل ما هو اسم العاصفة القادمةـ، فهي بالنسبة لهم رعبٍ جديد جاء ليقضي على ما تبقّى لديهم من ظروفٍ بسيطة تعينهم على الحياة.
ففي ظلّ انقطاعٍ شبه دائم وكامل لجميع موارد الطاقة في العاصمة دمشق و غيرها من المدن السوريّة، كان لا بدّ للسورييّن من ابتكار أدواتٍ جديدة للحفاظ على حياتهم و حياةِ أطفالهم من الصقيع.
وبالرغم من إعلاناتٍ كثيرة تحدثت عن "الطاقة الشمسية" إلّا أنها مكلفة جداً وبالتالي لن تكون بمتناول يد معظم سكّان دمشق.
الوسيلة الأولى البديلة كانت ( كيس الماء الساخنة ) , اختراع قديم استغنى عنه السوريون منذ زمن إلّا أنه عاد للظهور من جديد في المحلّات التجارية والصيدليات بأشكالٍ و ألوان جديدة تناسب الكبار و الصغار !
وهو كيس مصنوع من المطاط يتمّ تعبئته بالماء الساخن ويوضع تحت الثياب عند الخاصرة أو عند القدمين أو الظهر، فيبثّ الدفء بالجسم طالما أن الماء محافظ على حرارته المرتفعة.
أما الوسيلة الثانية و هي الأهمّ و الأكثر عمليّةً، فهي المشروبات و المأكولات التي يسميها السوريون " التدفئة المركزيّة " كالكراوية و هي مسحوق يدعى الكراوية و يُغلى مع الرز المطحون والسكر و يرشّ عليه مسحوق جوز الهند للزينة، ويقدّمها السوريون عادةً في مناسبات الولادة في الشتاء.
و من مأكولات " التدفئة المركزية "أيضاً شوربة العدس و "الكشكة" المطبوخة الساخنة و مشروب المغلي المكوّن من الزنجبيل و القرفة و غيرها من المواد التي تمدّ الجسم بالدفء .
كوسيلةٍ ثالثة اعتمد الناس على كثرة الثياب و تعدّد طبقاتها بشكل ملحوظ ! فقد يصل أحدهم إلى ارتداء خمسة سراويل معاً لاستشعار الدفء .
تقول سيّدة : " ألبست أطفالي كلّ ما لديهم من ثياب لأدفئهم .. يعلم الله ماذا سألبسهم عندما يحين وقت غسيل ما عليهم من ثياب .. "
أما التدفئة بالحطب فهي ليست بالوسيلة السهلة كما يظنّ البعض , فهي تحتاج إلى كميّاتٍ كبيرة من الخشب كما وتنبعث من المدفأة روائح غير محبّبة في غرف مغلقة من كلّ الجهات , و سُجّلت حالات اختناق في العاصمة دمشق بسبب إشعال الفحم كبديلٍ عن الحطب.
"أبو عماد" يعدّ نفسه رجلاً محظوظاً و هكذا يراه الناس , فهو يعمل كسائقٍ لباص حكومي و هذا ما أتاح له الفرصة لتعبئة ما تيسّر من المازوت لتدفئة منزله.
يقول أبو عماد ضاحكاً: "ازداد عدد ضيوفي على غير العادة , و أصبحتُ محبوباً فجأة .. عدا عن أنّ جاري بات يلقّبني بالملك !! ".
هذا وقد اجتمعت أيام العاصفة السود مع امتحانات المدارس و المعاهد و الجامعات , فلا كهرباء و لا تدفئة تساعد الطلاب على الدراسة و التركيز , و حتى المدارس الابتدائية التي تعجّ بالأطفال ممّن هم دون سنّ العاشرة , لم يُؤمّن لهم أي نوع من أنواع الدفء.
أُلغيت بعض المواد المقرّرة في الامتحان بموجب قرار وزاري كان يصدر ليلاً في اليوم الذي يسبق الامتحان مباشرةً , أما بعض المواد الدراسية فقد تمّ تقديمها بشكل رسمي تحت وطأة الثلج .
و أكثر ما أثار سخرية السوريين كان تصريح رجل الأعمال "فارس الشهابي" برصد مكافأةٍ قدرها خمسة ملايين ليرة سورية لأيّ سوري يتمكّن من اختراع وسيلة للتدفئة بديلة عن الغاز و المازوت و الكهرباء.
يقول أحدهم ساخراً من التصريح: "لو كان هناك ماء .. لكنت اخترعت جهازاً للتدفئة معتمداً على الماء .. إلّا أنها هي الأخرى .. مقطوعةٌ أيضاً !".
"ليس للسوري إلّا الريح"، جملةٌ و للمرّة الأولى يشعر الناس بمرارتها الحقيقية و تنطبق حرفيّاً على من هم في الداخل السوريّ و في مخيّمات اللجوء.