أخبار الآن | دمشق – سوريا (يمنى الدمشقي)
يوماً بعد آخر تزداد المآسي في سوريا، ومهما حاولنا تسليط الضوء على قصص ومعاناة الناس هناك ستبقى آلاف القصص طي الكتمان.
هذه القصص خبأتها الحرب والشوارع المحاصرة والمدن التي تهدمت على ذاكرة أهلها، وكم من أناس حرمهم الخوف من البوح بمعاناتهم، ولازال الرعب يسيطر عليهم كيفما اتجهوا.
منذ أيام ودع جنوب دمشق خنساءه، وكم من حي وبلدة في سوريا ودعوا خنسوات، حتى باتت سوريا نفسها خنساء بأبنائها، أمهات ما بخلن بعطائهن، لا يمكن لمن عاش على أرض كسوريا إلا أن يقدم لها الغالي والنفيس، ولا يمكن لمن عانى من ويلات الظلم إلا أن يكون سخياً في عطائه.
"أم ابراهيم" سيدة في الخامسة والستين من عمرها من جنوب دمشق، تعرضت وأولادها كما آلاف العائلات لبطش قوات النظام، لم ينتهِ بفقدان أول أبنائها إياد إثر القصف العشوائي على البلدة.
تتحدث الدكتورة سماح، وهي طبيبة في جنوب دمشق، أنه تم اختيارها لإخبار السيدة باستشهاد ابنها وكانت هذه المهمة في غاية الألم والصعوبة، فكيف لها أن تخبر أماً بأنها ودعت ابنها الوداع الأخير؟!
كانت السيدة تعاني من وضع صحي حرج جداً، فأخبرتها الطبيبة سماح أن ابنها استشهد في القصف على الحي، هنا وقعت الأم أرضاً من هول الصدمة وغابت عن الوعي متأثرة بهذه المصيبة التي حلّت عليها.
كانت تبكيه بحرقة وألم وتردد بين الفينة والأخرى "هلأ طلع من البيت وقال لي راجع وراح وماعاد يرجع".
غارت الجراح في قلب الأم كثيراً، لن يخفف عنها إنسان، كيف تنسى رائحته وذكرياته وخيالاً يدخل عليها كل ساعة ليخبرها أنه بخير؟!
مرت الأيام والشهور عليها، وباتت تتأقلم قليلاً على حياة الفقد التي صارت عليها، إلى أن جاء يوم قرع فيه الباب على الطبيبة سماح لتسمع صوتاً ينادي: "تعالي بسرعة الله يخليكي أخي مات!".
هرعت الطبيبة إلى المكان المقصود، حتى وجدت الشاب أسعد ابن السيدة أم ابراهيم الثاني ملقياً على الأرض وإلى جانبه أمه تمسح عليه بدموعها حتى تختلط بدمائه، وجدت جثة غارقة بدمائها، وامرأة تجلس بجانبها تتطلع عليها بعيون الرجاء ألا يكون الثاني قد مات أيضاً!.
صارت تضمه وتصرخ: "الله يخليكي لا تقولي مات بكفيني واحد"، ثم ترتمي عليه وتضمه وتبكي قائلة: "شوفي بعده دافي! دسيه هلأ حرك عيونه أنا شفتو أمانة اعملوا أي شي ليعيش".
صارت تخاطب ابنها الملقى أمامها، وتقول "ابنك يلي جاية عالطريق كنت رح سميه باسم أخوك وهي أنت رحت وأخوك راح وابنك يلي رح يجي لا بيعرفك ولا بيعرف أخوه".
تمسح الدكتورة سماح دموعها، وتقول: "حاولت كثيراً أن أتماسك أمامها أن أساعدها بأي شيء لكن الموت كان أكبر منا كلنا، الموت الذي استهدف ابنها الثاني وهو مرابط في إحدى النقاط العسكرية".
ومرت الأيام على أم ابراهيم، ولا زال وضعها الصحي يسوء يوماً بعد آخر، فبالإضافة للأمراض التي تأتي على المسنين، كانت تعاني من سرطان الرحم الذي بات ينهش جسدها يوماً بعد آخر ويسبب لها آلاماً مبرحة ونزيفاً دائماً.
ولطالما حاولتُ إقناعها بالخروج من سوريا للعلاج إلا أنها كانت دائماً تجيب: "بدي موت بين أولادي".
لم تكن تعرف أن أولادها سيتساقطون أمام عينها واحداً تلو الآخر، حيث استشهد ابنها الثالث في إحدى العمليات العسكرية أخفوا الخبر عنها وأخبروها أنه في مهمة قد تطول، لكنها لم تسكت يوماً في السؤال عنه، حتى جاءها الفشل الكلوي ليقضي عليها حيث باتت تغسل كلاها أكثر من مرتين في الأسبوع.
في كل مرة كنت أذهب إليها أراها تبتسم ابتسامة ألم وسط طموعها التعبة، وتحدثني عن أبنائها، وفي أكثر من مرة تفقد وعيها، وحرارتها ونبضها متموجان ويبدو الشحوب على وجهها.
تقول الطبيبة: "لم يبقَ مرض لم ينل منها، جسدها التعب لم يعد قادراً على أنابيب غسيل الكلى، وباتت بحاجة لمراقبة طبية مستمرة بقدرة مشافٍ ومراكز، حتى توفيت في يناير 2015 ودفنت سر ابنها الثالث معها، كانت ترجو القاء به لكن يبدو أن اللقاء الأبدي بأولادها جميعاً سيكون في مكان آخر بعيداً عن بشاعة الحرب هذه".