أخبار الآن | ريف دمشق – سوريا – (يمنى الدمشقي)
ربما لم يكن مَنْ صَوَّرَ مشاهد الحرب والدمار في حمص يتوقع أن تصل تلك الصور إلى أحد أعرق المهرجانات السينمائية في فرنسا، وتتحول إلى فيلم سينمائي يوثق المأساة السورية، ويحصد عدداً من الجوائز العالمية.
من قلب الموت والحرب، خرجت "وئام بدرخان" حاملة ذاكرة ثائرة أثقلتها الحكايات والدماء، كل ما كانت تريد أن توصله ذاك الصوت المغيب إلى العالم من خلال عمل سينمائي يحكي قصة المأساة السورية الممتدة منذ البداية حتى يومنا هذا، صوت الشعب الجريح المعذب، المحاصر في أحياء مهدمة، وعن الأطفال الذين باتوا يألفون أصوات الرصاص والدبابات، وعن انتهاكات بحق كل من طالب بحريته.
آثرت وئام بدرخان البقاء في حمص، وتوثيق كل ما تمر عليه عدستها، حالها كحال آلاف الناشطين السوريين، الذين وجدوا في العدسة شاهداً على مأساتهم، وثقت كل شيء وكل لحظة، منذ سقوط أول شهيد حتى نهاية حصار حمص في 2014 حيث خرجت وئام إلى فرنسا للقاء المخرج "أسامة محمد" ليقدما فيلمهما المشترك، خرجت وئام تاركة قلبها في حمص، وئام التي كانت تصور كل شيء خلف عدستها، فضحت العدسة دموعها عندما ودعت أرضها.
خلال هذه الفترة، تواصلت وئام مع المخرج المقيم في فرنسا قسراً "أسامة محمد"، وباتت تحدثه عن حمص، وعن الحصار والموت، فطلب منها توثيق كل شيء في صور، وصارت ترسلها له تباعاً، حتى تكونت عنده مادة سينمائية قد تكون الأضخم، ذاك أنها سينما حقيقية تبوح بوجع الإنسان الحقيقي، أبطالها كانوا الناس المحاصرين أنفسهم، وكان المكان ساحة حرب، وكان الزمان أيام توالت بعد أيام، وتضاربت أصوات الفيلم مع أصوات الرصاص الحقيقي، حتى مخرجا الفيلم كانا من أبطاله، وليسوا مجرد متفرجين على مسلسل الأحداث المتتابع.
تحكي وئام بدرخان في لقاء خاص مع "أخبار الآن" عن المشاهد التي حاولت تصويرها، وعن الصدق الكامن فيها، وعن شيء لا يمكن إلا أن تستشعره وهو الأمل!
وتقول بدرخان: "كيف لإنسان يعايش الموت ليل نهار أن يبني مدرسة ويرسم على حيطانها ليقول للحياة أن ثمة دفء كامن هنا، وكيف يركض عمر كل صباح إلى قبر أبيه الشهيد ليزرع وردة عليه، عمر ذو الست سنوات الذي فقد كل شيء في الحياة لم يعد له إلا أمل يزرعه على قبر أبيه، كأنها تحاول أن تخبرنا أن الإنسان متفائل بالفطرة، وكيف يستطيع أن يتحمل كل الظروف بأمله".
وتضيف: "الزهرة في حياة الطفل، تعني برعم أمل يسقيه يوماً بعد يوم، أن يحاكي عمر أباه الشهيد كل صباح، تعني أن حديثاً من لغة أخرى يدور بين اثنين، الطفولة والحياة مكون أحدهما".
وتردف: "تتوالى مشاهد الفيلم عن أطفال لم يهابوا القصف ولا الموت بل واصلوا ذهابهم إلى المدرسة وتعليمهم، غير آبهين بالموت المحدق بهم، ثم تأتي المشاهد الأخرى عن تعذيب شاب مراهق على أيدي جنود الأسد فقط لأنه طالب بالحرية وبإسقاط النظام، ثم ترى الجنود يهتفون ويصفقون فرحاً بتعذيبه، ويطلب أحد منهم أن يسجد لبشار الأسد".
تقول مخرجة الفيلم: "في الفيلم تلمح صور قتل وموت وخراب ودمار، وتلمح جموعاً حاشدة تهتف للحرية وتهتف للشهيد وتهتف ثأراً للدم المسفوك على الأرض، ثم ترى قناصاً يستهدف الجموع الحاشدة فيوقعها بين شهيد وجريح، ثم ترى جماعة يحملون نعشاً ويسيرون في جنازة، لتنتقل العدسة بعدها إلى ولادة في قلب الحصار لطفل، كأننا نرى ثنائية الموت والحياة، الفقد والولادة، الأمل والخيبة".
ونوهت بدرخان، أن الفيلم لم يكن فقط مجرد توثيق لجريمة تعرض على شكل فيلم سينمائي، إنما أرادت أن تحكي للناس هناك أنكم لازلتم موجودين بذاكرة بلا حدود، وكانت العدسة حينها تجيب كل سؤال يراودنا، فلربما يخطر على بال أحدنا سؤال، كيف الناس عايشة بحمص؟
وتروي حول الفيلم: "ترى مشهد عمر يضع زهرة على قبر ميت، أو مشهد الجنازة التي تتبعها ولادة حياة، أو مشهد الدمار، أو مشهد طفل يركض هرباً من القناص بعد أن يقطف زهرة، ثم تسمع أصواتاً متقطعة في الفيلم، أنا أموت أنا لم أعد أنا، كل شيء تغير في ملامح المدينة المتعبة، الشجر والحجر والبشر، كأن الصور تجيب وأنت تسأل داخلك".
وتضيف: "يستحق الفيلم أن يكون مؤرخاً حقيقياً للثورة السورية بشكل عام، ولمدينة أبيدت كحمص بشكل خاص، ولأول مرة تكون تلك المأساة حاضرة بأحد أكبر المهرجانات العالمية، في مهرجان كان السينمائي في دورته السابعة والستين، وقبل ذلك كان الفيلم قد حصد جائزة أفضل فيلم لمهرجان لندن السينمائي، والآن يحصد جائزة إف في دورته 14".
"كل شيء الآن، البشر والشجر والحجر والأرض والسماء والنجوم، كل شيء قتل أمام عيني، ورغم ذلك عدت إلى مدينتي، لا شيء بقيمة بلدي الذي يقتله النظام، أنا جئت من هناك، لقد أكلنا الحشائش، لا شيء يؤكل هناك والحيوانات تأكل بعضها"، تقول وئام بدرخان، وتضيف: "هكذا كانت وئام بعد عرض الفيلم في مهرجان كان، كانت تبدو منهارة رغم كل رسائل الأمل التي حاولت إيصالها، كأنها متعبة في لحظة استراحة بعد حرب".
"لم أجدها، أبحث عنها في سينما القاتل، في سينما القتيل"، هكذا يصدح صوت المخرج في الفيلم ليؤكد حضوره على ساحة الموت والحياة.
وحاول الفيلم أن يوصل رسالة حية، مفادها "أننا لا زلنا هنا أحياء ولازال للأمل بقية، ولعل أكثر المشاهد التي تبدو مؤثرة مشهد الطفل عمر عندما يقترب من قبر أبيه ويقول له: "جبتلك ورد بابا، جبتلك ورد كتير شوف شو حلوين"، ثم يسأله "بابا عندك أكل، عندك بندورة، كل يوم بدي أجي لعندك وجبلك أكل وورد".
وتنهي بدرخان حديثها بالقول: "كل يوم في حياة هذه الثورة يقدم آلاف الورود قرباناً لحريتها، بينما يبقى قاتل تلك الورود في قصره متفرجاً عليها بلا كاميرات ولا أضواء، فقط يسمع أصوات البكاء والموت ويضحك ساخراً من ألم الضحية".