أخبار الآن | درعا – سوريا ( أسامة زين الدين)
كانوا قرابة العشرين شابّاً في عقدهم الثّالث، باعدت بينهم الجغرافيا، وجمعهم طريق التهريب. فرّقتهم كوابيس الحرب داخلها، ووحّدتهم أحلام الفردوس المنتظر خارجها، أو هكذا يظنّون. كانوا مزيجاً متنوّعاً يعطي صورة مصغّرة عمّا آلت إليه الأوضاع في بلدهم، ولم يعد أمامهم خيار إلا الهجرة رغم خطورتها، كما يقولون.
دروب الهرب ..
محمّد طالب جامعيّ من إزرع أنهى دراسته ولم يجد أي مسوّغ قانونيّ ليتهرّب من أداء خدمته العسكريّة. ضاقت به الحال ورأى أن أفضل ما يقوم به هو أن يصنع بنفسه مستقبله في الخارج، بدل أن تصنعه حواجز النّظام التي تبحث باستماتة عن أمثاله، وتزجّهم في الخطوط الأولى للمعارك في معادلة خاسرة بكلّ حال، إما مقتول كرمى لعين الأسد، أو خائن في عين أخرى، هي عين الأهل والبلد. عبد الرحمن ذو ال 21 عاماً، عسكريّ منشقّ منذ سنتين من إدلب، لا هويّة ولا وثائق شخصيّة لديه، عمل مقاتلاً مع إحدى تشكيلات الجبهة الجنوبيّة، لم يطق البقاء بسبب غربة الأهل، وضيق ذات اليد، أخبرنا أنه يريد أن ينضمّ إلى أهله في ادلب ومن ثمّ يخرج بهم إلى أيّ مكان خارج ما سمّاه "الجحيم".
بدأ طريقهم إلى أرض الأحلام المنتظرة بالتّنسيق مع شبكة من المهرّبين، المصنّفين قانونيّاً بـ"تجّار البشر"، كل منهم له سمسار، وله أتعاب غير قابلة للتّفاوض. تكون الخطوة الأولى بإيصالهم عبر السّماسرة إلى نقطة التّجمع في منطقة اللّجاة الوعرة آخر نقطة يسيطر عليها الجيش الحرّ بالقرب من السّويداء، حيث يخضعون لتحقيق وتفتيش من قبل حاجز جبهة النّصرة التي تتطلب تزكية لأيّ واحد منهم خوفاً من انضمامه لتنظيم الدّولة وعودته لقتالها، ولا يخلو الأمر من نصائح لهم بالعودة والقتال، والتأكيد على أن البلد تتفرغ من شبابها، في ظل هجمة مسعورة من مليشيات طائفيّة أتت من وراء البحار.
يسلم هذا السّمسار المهاجرين لأخر غالباً ما يكون بدويّاً، ويتم شحنهم في سيّارات مكشوفة، وقد يمرّون على حواجز أخرى للجيش الحرّ في آخر نقاط سيطرته، ويحدث أن يهانوا ويضربوا على تلك الحواجز وسط اتّهامات لهم بالجبن والخيانة والهرب وترك البلد للأعداء، أو السّعي للانضمام لتنظيم الّدولة بعد أن يغريهم برواتب عالية.
لا تتّبع تلك الحواجز سياسة ثابتة فتارة تسمح بالعبور وتارة تمنعه، ومن ثمّ يتابع المهاجرون في منطقة مكشوفة على حواجز النّظام، يدّعي المهرّب أنه ينسّق معها ويرشوها بالمال لتغضّ الطّرف عنهم، ويضطّرون ضمنها للمشي ليلاً حوالي ثماني ساعات على الأرجل. وربما يقع هؤلاء في كمائن للنّظام فيعتقل منهم أو يقتل من قد يقتل.
وفي شهادات خاصّة لمراسل الآن يقول المهاجرون أنّه عند الوصول إلى مناطق تنظيم الدّولة يتمّ التّحقيق مع المهاجرين، وعرضهم على عناصر لديها من حوران ليقوموا بالتّعرف عليهم إن كانوا من الجيش الحرّ أو من الفصائل الاسلاميّة التي يكفّرها التّنظيم. وعند إطلاق سراح غير المشتبه فيهم يتمّ التّنسيق مع شبكات تهريب أخرى لتوصلهم إلى تركيّا، ومنها إلى أرض الأحلام في رحلات بالغة الخطورة شهدت الأشهر الماضية كوارث مفجعة غدت حديث العالم.
الهجرة من درعا .. بين مؤيد ومعارض
يشهد المجتمع الحورانيّ نقاشاً حاداً حول الهجرة وموقفه منها خصوصاً أنها زادت بنسبة كبيرة جدّاً بعد معركة عاصفة الجنوب، والتي لم تكلل بتقدّم عسكري لقوى الثورة وما رافقها من قصف عنيف للقرى الحورانيّة تضرّرت منه البنى التحتيّة بشكل كبير، ففي رصدنا لمواقف عدد من عناصر الجيش الحرّ والمنخرطين في أعمال ثورية بمختلف أنواعها أبدوا اعتراضاً عليها، وبخاصة للشباب القادر على أن يقدّم شيئاً ما يخدم فيه ثورته ويقصّر من عمر النظام، ويعزّزون موقفهم بتصحّر ونزوح للكوادر والخبرات والأدمغة من سوريا في مقابل ضخّ هائل روسيّ وإيرانيّ بشريّ ولوجستي لصالح النّظام.
وتكاد تخلو هيئات الثورة من كوادر مختصة ومحترفة في كثير من ثغورها. إضافة إلى أن قسماً من المهاجرين يخرجون استسهالاً للبدائل وهروباً إلى الأمام، حيث يرفضون الإفصاح عن سبب مباشر للسفر، ولا يعرفون أين يتجهون، ولا يحدّدون لأنفسهم هدفا معيناً إلا وفق ما يرميهم فيه البحر، أو يصحبهم إليه المهرّب.
أمّا المدافعون عن الهجرة فيرون أن المستقبل صار مجهولاً في ظل التشابك والتعقيد الإقليميّ والدوليّ الذي تشهده الثورة، وأن هناك ألف سبب للهجرة في ظل عجزهم عن إكمال الدّراسة والضّغط الاقتصاديّ والاجتماعيّ والأمنيّ عليهم وعلى أسرهم، إضافة إلى عجز الهيئات الثّورية العسكريّة والمدنية عن تأمين بديل مناسب وإدارة ناجحة للمناطق المحرّرة، تسمح باستغلال الإمكانيّات وتطويرها وتوظيفها في السّياق الاجتماعيّ والمحليّ المناسب.
يذكر أنّ المفوضيّة الأوروبيّة قد أوردت في تقريرها الشّهر الماضي أن عدد المهاجرين السورييّن المسجّلين رسميّاً للخارج يزيد عن الأربعة ملايين، كان النّصيب الأكبر منها لدول الجوار، وأنّ هناك ما يزيد عن سبع ملايين ونصف مهجّر داخل سوريا، وأنّ ما يزيد عن نصف السوريين بحاجة لمساعدة إنسانيّة.