أخبار الآن | الرقة – سوريا – (عزام الحاج)
تبث كل يوم عشرات الفيديوهات التي توثق وضع الثورة السورية والحرب التي يشنها النظام على الشعب. وقد برز منذ يومين فيديو للشيخ "حمد الشيخ شحاذة الياسين"، شيخ عشائر النعيم العربية في منطقة رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة.
يقوم الشيخ في هذا الفيديو بكيل المديح للميلشيا الكردية في المدينة، كتكرار لمديح سابق للنظام والجيش الحر فترة تناوب السيطرة العسكرية على أرض الميدان.
خطاب الفئات التابعة
ليس نادراً اليوم أن نعثر على مواد كهذه؛ كان السوريون يرونها يومياً في ظل سلطة الأسدين، بل كانت وسائل الإعلام السورية أجهزة لبث أمثالها. وهي ليست نادرة بعد نشوب الثورة أيضاً، فليس نادراً أن نجد أشخاصاً يعلنون انحيازهم وترحيبهم بسلطة أمر واقع وتطابقهم معها. ولهذا فإن أهمية هذا الفيديو لا تنبع من ندرته ولا من استثنائية مضمونة السياسي أو الإنساني أو التاريخي، بل من كونه نموذج مثالي لفئة اجتماعية استخدمها ويستخدمها كل الغزاة والطغاة والمحتلين وصانعي الهندسات الاجتماعية، يستخدمونها مطية وأداة في وضد مجتمعاتهم فيما هم، كأفراد يخدمون مصالحهم الشخصية وأطماعهم الخاصة، بغض النظر عما تستجره شهاداته هذه على المصلحة الوطنية وعلى خير مجتمعاتهم من أضرار ومصائب. إنها وثيقة من آلاف الوثائق، وثيقة ومستند لصاحبها وعليه، ولمن دفعه إلى تقديمها وعليه أيضاً.
شيوخ العشائر
فئة مَنْ يُطلق عليهم "شيوخ العشائر" في سورية ما بعد الاستقلال هي فئة مصنوعة سياسياً واستخبارياً، إن صح الوصف، وليست تعبيراً حقيقياً عن بنية المجتمع السوري ومستوى تطوره سياسياً وثقافياً.
فمنذ عهد الاحتلال الفرنسي 1920-1946 كانت السلطات الفرنسية تتعامل مع المجتمع السوري على أنه مركب من عنصرين ثقافيين اجتماعيين؛ هما سكان المدن من جهة وسكان الأرياف والبدو من جهة أخرى. وفيما كانت، على سبيل المثال، تفتح المجال أمام إجراء انتخابات لاختيار ممثلين عن المدن في البرلمانات السورية إبان فترة انتدابها على سورية، فقد كان المفوض السامي الفرنسي، وخاصة بعد إعلان الاستقلال في العام 1941، ينتقي أشخاصا بعينهم لتمثيل العشائر في البرلمان. وما كان يجري فعلياً هو أن اختيار المندوب السامي لهؤلاء يحولهم مع الزمن إلى "شيوخ" دون أن يكونوا كذلك قبلها.
وبعد جلاء القوات الفرنسية في العام 1946، عاشت سورية مرحلة ليبرالية قصيرة جداً، شهدت تمثيلاً نيابياً حقيقياً حضر فيه بعض شيوخ العشائر عن مناطق تواجد عشائرهم دون أن يكون لهم دور سياسي بارز.
هذه المرحلة هي التي أوصلت طبيباً وكاتباً شاباً اسمه "عبد السلام العجيلي" إلى المجلس النيابي عن منطقة عشائرية بالكامل، الرقة، ودون أن يكون هو نفسه شيخ عشيرة. هذه المرحلة أنهتها انقلابات عسكرية واضطرابات سياسية ابتدأت بالعام 1949 بُعيد النكبة واستمرت إلى أن أوصلت البلاد إلى هزيمة العام 1976 وخسارة الجولان وتهيئة الأرض لحكم استبداي مديد هو حكم الأسرة الأسدية.
ورقة بيد الديكتاتور
نظام الأسد الأب صنع نسخة هزيلة عن التمثيل البرلماني تحت اسم "مجلس الشعب" سار فيه وفق المنهج ذاته، الذي وضعه الفرنسيون قبلاً، في تعاملهم مع جزء كبير من المجتمع السوري. فإذ يضمن الدستور تحقيق أكثرية في المجلس لصالح حزب البعث وأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" كممثلين لفئتي العمال والفلاحين، فقد تُركت نسبة ضئيلة من المقاعد لتنافس "حر" باسم "باقي فئات الشعب"؛ وهو حر فقط لأن أجهزة المخابرات التي تُخرج مهزلة ما يُسمى بالانتخابات لا تُرسل قائمة مغلقة بأسماء المرشحين الذين سيفوزون بالانتخابات، أي، مرشحي البعث والجبهة الوطنية التقدمية.
وكانت حصة الرقة، على سبيل المثال، في مجلس الشعب 8 مقاعد، 6 مقاعد منها للبعث وجبهته التقدمية و2 للمستقلين. واللافت هنا أن الرقة لم تنجح ولا مرة في إيصال ممثل للنخب المدينية الحديثة طوال عقود الحكم الأسدي، رغم أنها أوصلت العجيلي قبلها بعقود.
بقيت كراسي المستقلين دائماً لممثلين عشائريين تشرف أجهزة الأمن على وصولهم إلى المجلس دون أن يمتلكوا الحد الأدنى من مقومات التمثيل البرلماني، ناهيك عن برنامج سياسي يطرحونه على الناخبين ويسعون لتنفيذه فترة نيابتهم كما هو حال النواب في البرلمانات الحقيقية. حدث هذا ويحدث رغم كل التطور الموضوعي في بنية المجتمع وتطور علاقاته وارتفاع نسب التعليم للجنسين وانتشار وسائل الإعلام الحديثة. والحصيلة هي هذا الشيخ: "حمد الشيخ شحاذة الياسين".
مستخدمون لدى المسيطر
الشيخ حمد، وهو شيخ عشائر النعيم العربية في منطقة رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة، يقوم بالدور الذي يقوم به أفراد فئته مع المتغلبين بغض النظر عن توجهاتهم أو عقائدهم. هو وأمثاله من اجتمعوا بأمر النظام وأرسلوا برقيات التأييد لرأس النظام في صيف العام 2011 بعد تسمية الثوار المدنيين أحد أيام الجمع بـ"جمعة العشائر"، وهم مَنْ رحبوا بالجيش الحر بعد دحر النظام من مناطقهم، وهم مَنْ بايعوا تنظيم داعش بعد أن تغلب على كتائب الجيش الحر، وها هو اليوم يسمى أرضه وأرض عشيرته "روج آفا" ويسمي بلدته "سري كانيه" [الاسم الكردي لرأس العين] دون أن يردفه باسمها العربي؛ الرجل ينتحل خطاب المتغلب ويكرر جملاً وعبارات اعتادها في ظل الحكم الأسدي، مثل "الوقوف صفاً واحداً" وراء قوات البي كي كي وقوات الأسايش وقوات الي بي جي، وكلام بشار الأسد الأخير: "أرض لا نستطيع أن نحميها لا يحق لنا العيش فيها"، لينتهي إلى الخلاصة والرسالة السياسية المرادة منه: شكر قيادات الميلشيات الكردية ونفي أي تهجير للعرب في منطقة تل أبيض".
هذا الشيخ وأمثاله كثر يعلم أن النظام الأسدي يُظهر على وسائل إعلامه العشرات يومياً ممن يقولون الكلام ذاته للنظام، وكذا تفعل داعش التي تُظهر من يؤيدها ويعبر عن تطابقه مع مشروعها، فلم لا تفعل الميليشيات الكردية، هم يريدون استخدامه وهو لا يمانع أن يستخدمونه ولو لمرة واحدة! وغالباً لن يمانع الظهور مرة أخرى في وسائل متغلب جديد، مستخدم جديد في المستقبل.