أخبار الآن | الرقة – سوريا – (عزام الحاج)
روى أحد الناشطين الحقوقيين الرقيين مرة حادثة، جرت منذ أكثر من 10 سنوات في منطقة "معدان" جنوب شرق الرقة. تقول تفاصيلها أن امرأة جُلبت إلى التحقيق للاشتباه بارتكابها جريمة ما، وبعد أن نالت ما نالته من التعذيب على أيدي عناصر الأمن الجنائي، أُحيلت إلى قاضي التحقيق. القاضي الذي سرعان ما نفد صبره من إنكارها فبدأ هو نفسه بتعذيبها جسدياً لاستخلاص المعلومات منها.
القاضي أبو علي الشرعي
هذه الحادثة تصلح لأن تكون تكثيفاً للدور المنتظر للقضاء في الأنظمة الاستبدادية ولنوعية جزء ممَنْ عملوا في السلك القضائي في "سورية الأسد"؛ حيث تتمازج السلطات وتلتبس الوظائف والأدوار ويتحول القضاء إلى جهاز أمني حاله حال كثير من مؤسسات الدولة في نظم الطغيان والفساد. لكن فعلة هذا القاضي من العهد الأسدي ستبدو نكتة سمجة أمام ما يقوم به من يسمون اليوم "شرعيو" فصائل المجموعات السلفية الجهادية في سورية.
"أبو علي الشرعي"، واسمه الحقيقي "فواز الحسن" من أبناء ريف الرقة الشرقي، كان شرعيّ "داعش" خلال الأشهر الأولى من إعلانه في الرقة. يقول أبو علي لأحد المعتقلين لديه: "برقبتي 105 وانشالله سيصبحون 135 خلال هذا الشهر".
ويروي المعتقل الناجي من حجيم "داعش": "لقد قتل أبو علي 4 أشخاص أثناء فترة اعتقالنا". أحدهم "بطلقة في الرأس لأنه وجد مقطعاً جنسياً في هاتفه المحمول"، كما قتل شاباً آخراً "بطلقة في الرأس أيضاً لأنه بدأ بالبكاء على شقيقه الذي قُتل أمامه، ثم ربطوا الشقيقين بحبال من النايلون وثقلوهم بثقالات إسمنتية تستخدم عادة في عراءات الحبوب وألقوا بهما في مياه بحيرة المنصورة". والحالة الرابعة هي لشخص كان سجيناً محكوماً بالإعدام لقتله شخص ما. وقد فرَّ من سجن الرقة المركزي إثر سيطرة فصائل ثورية عليه. لكن أهل القتيل احتجوا على وجوده حراً طليقاً، فاعتقله "داعش" مُجدداً.
داخل سجن داعش شبَّه هذا الرجل الشرعي أبو علي بإحدى شخصيات المسلسل السعودي الشهير "طاش ما طاش"؛ لكن أحد المسجونين معه أوصل التعليق إلى الحراس، وهؤلاء أوصلوها إلى أبو علي الشرعي الذي قتله فوراً.
"أبو علي الشرعي" الدموي لا يكتفي بممارسة أحكام الإعدام القراقوشية فقط، بل يتلذذ بتعذيب ضحاياه بسادية لا مثيل لها. فيجعل مأموريه من عناصر التعذيب يهيئوا له الضحية جلداً ولكماً ورفساً إلى اللحظة التي يقرر أن يواصل هو التعذيب بيديه، فيستمر به إلى أن يصيبه هو نفسه الإعياء والتعب.
وغالباً ما يكون التعذيب لمجرد التعذيب أو للانتقام أو للارهاب. فمعظم من وقعوا بين يدي أبو علي الشرعي هم أشخاص بلا حول أو قوة، حوَّلهم بوحشيته إلى أمثولات لإرهاب الناس وترويعهم وصرفهم من مخالفة "داعش" الدموي. وأبو علي الشرعي رجل شبه أمي، الشهادة الوحيدة التي يحملها هي شهادة حصوله على الحزام الأسود بالكاراتيه؛ وهو ما كان يثبته تطبيقاً على أجساد ضحاياه.
القضاء أداة للقمع
لكن كيف ولِمَ يصبح أمثال هذا الشخص قضاة شرعيين؟. وهل هو حالة فريدة أم جزء من ظاهرة؟. طرح موقع "الآن" هذين السؤالين على "د. عبد الرحمن الحاج"، المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية.
يقول د. الحاج: "القضاء بالنسبة للتنظيمات السلفية الجهادية وحتى العسكرية عموماً هو أداة سلطة، وثبيت الأوضاع الاجتماعية وفق مقتضيات المصلحة والمعتقدات السياسية للتنظيم .. بهذا المعنى، فإن المهمة المنوطة بالقاضي [الشرعي] هي تثبيت السلطة مدعوماً بقوة السلاح أو سلطة السلاح".
وهنا، كما يرى د. الحاج، فإن: "المعرفة بالخلفية الأيديولوجية للتنظيمات تحدد مدى الأهلية، وبما أن الإيديولوجيا السياسية ترتكز على أصول دينية فالمعرفة الدينية أساس المؤهلات بعد اعتناق الأإديولوجيا .. ولكن المعرفة الدينية تأتي في المرتبة الثانية لتولي منصب القضاء، فالانتماء للتنظيم أو موالاته هو الشرط الأول". وتالياً فإن العصبية والولاء تحدد نوع المعرفة ومستواها لممارسة القضاء لدى هذه التنظيمات؛ إذ تكفي بعض "المعارف الفقهية حصراً" لتولي هذه الوظيفة. ويتابع د. الحاج: "لكن بما أنه المعرفة الفقهية مطلوبة فقط لتحقيق السلطة وتثبيتها فالمطلوب هو الحد الأدنى منها، الحد القادر على تحقيق هذا الغرض، وهو ما يفسر تعيين "قضاة" لايمتلكون أي تحصيل جامعي".
يؤمن معظم السوريين أنهم يمرون بمرحلة انتقالية كبيرة، وأنهم يواجهون نظاماً مجرماً لا نظير له في التاريخ. لكنهم يؤمنون أيضاً أنهم يواجهون في الآن ذاته، إن لسوء الحظ أو حسنه، أقذر وأعتى ثورة مضادة تخدم عدوهم الأول، النظام، ويُجيَّر كل ما تفعله لصالحه. كما يؤمنون أن خلاصهم يتمثل في بناء دولة حديثة أول مفرداتها هو فصل السلطات حيث يسهر القضاء على خدمة الناس بتحقيق العدل، لا فرض برامج طغاة جُدد.