أخبار الآن | الرقة – سوريا – (عزام الحاج)
تُثير مساعي حزب PYD لفرض منهاج تعليمي باللغة الكردية في المناطق الخاضعة لسيطرته قلقاً وردود فعل متباينة في المجتمعات المحلية العربية والآشورية والكردية، أي، المناطق السورية التي يُديرها هذا التنظيم تحت مسمى "الإدارة الذاتية" في القامشلي وعامودا ومدينة الحسكة وبعض قراها وعفرين وعين العرب في ريف حلب، ومؤخراً في منطقة تل أبيض التي سيطرت "قوات الحماية الشعبية" عليها منتصف شهر حزيران الماضي بعد دحر "داعش" بمساندة من قوات التحالف الدولي.
المنهاج الجديد .. اللغة الجديدة
يتركز سعي هذا التنظيم على فرض منهج باللغة الكردية للمواد الدراسية كافة وللصفوف الثلاثة الأولى من التعليم الأساسي. وفي حين يرى عرب وآشوريون أن هذه المحاولة تنتهك حقوق الطلاب في التعلم باللغة الرسمية للبلاد، فإنهم يرون أن فرض اللغة الكردية بالقوة واستفزاز المشاعر القومية عند أهالي التلاميذ ليست العوامل الوحيدة المثيرة للقلق، بل وضع اللغة الكردية الحالي أيضاً بوصفها لغة تواصل شفاهي ولا ترتقي إلى مستوى اللغات المتطورة وخاصة في المجالات العلمية. ذلك أن معجمية هذه اللغة، باستثناء آدابها القومية، حديثة وقلقة ومتعثرة حتى الآن ولا تخدم مستخدميها.
إلّا أن ناشطين أكراد يلفتون النظر إلى مصدر قلق وانزعاج آخر في هذا المسعى. إذ ينصرف اعتراضهم إلى الفلسفة التي بُنيت عليها هذه المناهج وينبهون إلى خطورتها على عقول الناشئة وتكريسها على تاريخ الأكراد، حسب وصفهم.
تستخدم هذه المناهج نظرية المفاهيم المحورية أو المركزية في بناء المنهاج الدراسي. حيث تُشتق جملة المفاهيم والصور وأدوات التفكير وما يرتبط بها من قيم من مبادئ عامة تُقررها السلطة التربوية عادة، وتحكم على مخرجات العملية التعليمية بمدى مطابقتها، أي، تكرارها، للمدخلات الأولية.
أوجلان وفلسفة "السوروك"
المبدأ الأساسي، أو المُدخل الرئيسي الذي تُبنى عليه ومنه تُشتق مفردات التعليم وبه تُحكم مخرجاته في هذه المناهج، وبشكل خاص المنهاج الخاص بالسياسة والعلوم الاجتماعية هو فلسفة "السوروك". ولفظة "سوروك" في اللغة الكردية تعني "الزعيم" أو "القاد"، في إشارة إلى زعيم حزب العمال الكردستاني التركي PKK عبدالله أوج آلان. ويبدو أن دخول فلسفة "السوروك" إلى مناهج التعليم التي يريد حزب PYD فرضها في سورية هي انعكاس لروح حزبية ضيقة لا يشترك فيها الأكراد عامة في تركيا، ناهيك عن سورية.
يُصور أتباع حزب PKK زعيم حزبهم في صورة قديس وفيلسوف ومنظِّر وعالم في الاقتصاد والاجتماع والدولة والحرب والسلام، أي أنها تُضفي عليه كل صفات القائد الفرد الفريد الفذ الأوحد. فتجمع في شخصه كل سمات الشخصية الكاريزمية التي تزيد من تعظيمه وتبجيله في مقابل صغار الآخرين وانمحائهم أمامه. إنه المفكر العظيم الذي تؤخذ أقواله في مناحي الحياة كافة بالتسليم والايمان بصوابيتها.
تراه يُنظِّر في السلطة بقوله: "السلطةُ ظاهرةٌ أكثرُ انتشاراً من الدولة. إذ قد تُعاشُ السلطة بكثافة في حالِ غيابِ الدولةِ أيضاً. فلا معنى لكَينونةِ السلطةِ دون الربح، لأنَّ الهدفَ الأساسيَّ لكياناتِ السلطةِ هو الربح". وكذلك يُنظِّر في الموت فيرى أن: "لا وجودَ للموت. فالموتُ استذكارٌ بشريٌّ وعاطفةٌ مصطَنَعة. إلا أنّه استذكارٌ قَيِّمٌ جداً من أجل الحياة".
إعادة إنتاج القمع والاستبعاد
هذا الحضور في ميادين الحياة جميعها وهذا التركيز المفرط على شخص أوج آلان يستنسخ تجارب الأحزاب الشمولية الشيوعية والقومية والقومية الإشتراكية. إذ تفترض فلسفات هذه الأحزاب وجوب أن ينوب الزعيم عن شعبه، أو وجوب أن تُختزل إرادة الشعب في إرادة ورأي وسلوك زعيمه، لأن الشعب لم يصل بعد إلى المرحلة الكافية لأن يقرر شؤونه بنفسه.
صور أوج آن والوضعيات التي يظهر فيها وانتشار مقتطفات من كتاباته في كل حقل وميدان والاستشهاد بها في الأحاديث والجدالات والمناظرات بين اتباعه تُذكِّر بزعماء آخرين رفعتهم أحزابهم إلى مصاف الآلهة، مثل لينين وماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ، قبل أن يتكشف حكمهم وزعامتهم عن خراب بلدانهم وسقوطها. كما تُذكِّر شمولية حضوره بالصورة والكلمة في كل مكان بمحاولات صنع كاريزما من ديكتاتوريين عرب رثين أمثال معمر القذافي وحافظ الأسد، وبشار الأسد راهناً.
ويبدو أن قدر السوريين، وقد انفتح على اتساعه أمامهم، أن يشهدوا كل العصور وكل المشاريع والمخططات السياسية والإيديولوجية التي خطرت على بال. هاهم اليوم يختبرون طغيان الأسد الُمنصب مدافعاً عن آخر قلاع العلمانية في الشرق الأوسط، ويختبرون إحياء الخلافة وعيش عصر الراشدين، وفي الآن ذاته يختبر قسم آخر منهم إحياء شمولية وانغلاق إيديولوجي عبر فلسفة "السوروك".