أخبار الآن | دمشق – سوريا – (نور حمزة)

يمر "علاء" الطالب في السنة الرابعة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، من تحت جسر الرئيس وسط دمشق ليطل، في طريق عودته على الكتب "المستعملة" في بسطات الأرصفة هناك. لم يكن مفاجئا له أن يرى كتابا لصديق له أو أستاذ جامعي يوقع باسمه على أول صفحة للكتاب.

وكما تشتت الشعب السوري وتهجّر في كل مكان، داخل البلاد وخارجها، فكذلك كانت كل ذكرياته وأملاكه تسرق وترتحل من مكان لآخر، ومن بينها تلك المكتبات الصغيرة التي كانت تتواجد في البيوت بشكل عام.

التاريخ الخلفي لثقافة دمشق

كان اقتناء مكتبة، ولو كانت صغيرة، هي واحدة من أحلام الشاب حتى مرحلة قصيرة خلت. فالطالب الجامعي كان يحاول توفير بعض من مصروفه لشراء رواية أو كتاب شعر أو مرجع في اختصاصه الجامعي.

تكونت عدة مكتبات صغيرة وأخرى متوسطة أو كبيرة، تبعا لدرجة الاهتمام وللوضع المادي الذي يسمح بشراء الكتب، قبل أن ترتفع أسعارها مع بداية الحرب في سورية.

وسيذكر الكثير من الطلاب والمهتمين، تلك المسافة التي كانوا يقطعونها، بداية من شارع المكتبات في منطقة "الحلبوني" وصولا إلى كلية الحقوق وسط العاصمة دمشق، ليقتنصوا بعض الكتب التي كانت تتجدد كل بضعة أيام. فثقافة بيع الكتب القديمة "التي يبيعها أصحابها" كانت من سمات الحالة الثقافية لدمشق قبل الحرب.

وكان من المقبول والمعروف أيضا أن تجد شاعرا أو روائيا أو أستاذا جامعيا وهو ينكب على مطالعة العناوين التي تهمه. وباتت بالمقابل علاقة الباعة مع الزبائن تأخذ منحى علاقة المودة والألفة، فالبضاعة كانت هنا تلبي حاجات ثقافية وفكرية.

الحرب تقتل سوق الكتب

مع مرور الوقت على انطلاق الثورة السورية، وبدء عمليات التهجير التي قام بها النظام، تضررت العديد من المكتبات الخاصة الشخصية، على اختلاف أحجامها بسبب هجرة الأهالي لمنازلها على وجه الضرورة والسرعة. ومع عمليات القصف والمداهمات لم تكن الكتب بالشيء الثمين الذي يلفت انتباه جنود النظام أو شبيحته، فبعد أن تتم سرقة الأدوات القابلة للبيع في أسواق تم فتحها خصيصا لتلك الغاية، يأتي دور الكتب لترمى أو تحرق؛ طالما أن حملها سيأخذ جهدا ووقتا وهي في كافة الأحوال لن تباع بأثمان كبيرة، إن وجدوا من يشتريها.

"ندى" النازحة من منطقة التضامن إلى منطقة الزاهرة في جنوب دمشق تقول: "كان لأخي مكتبة كبيرة اجتهد وهو يجمعها. أسس مكتبة معقولة في البيت، كانت متنوعة وكان يحرص عليها. أعلمنا جارنا فيما بعد أن المكتبة قد تم حرقها بعد خروجنا قبل مداهمات جيش النظام. أخي اليوم مهاجر في ألمانيا".

وتتابع ندى أن المشكلة ليست في قيمة الكتاب المادية، بل في طريقة التعامل مع الكتاب وكأنه عدو لهم: "لكنها الحقيقة، الفكر والكتب والحقيقة هي عدو للطغاة والديكتاتوريين على مر العصور".

لا يكترث السوريون اليوم ربما بتلك الخسارة التي تبدو بسيطة مقارنة بما يبذلونه من تضحيات كبيرة في الأرواح والأموال، ناهيك عن التهجير الممنهج الذي يتعرضون له.

نسأل السيدة "أم سمير" عن أبنائها الذكور الأربعة الذين هاجروا من مخيم اليرموك؛ نسأل عن المكتبة الكبيرة لأولادها المتعلمين: "لا تهمني الكتب ولا المكتبة، صرفوا الكثير من الأموال والعمر ليتعلموا وفي النهاية هاجروا".

أما الدكتور "ع. س" في جامعة دمشق فله رأي مختلف، إذ يقول: "كل شخص يصنع حياته الخاصة وتاريخه الشخصي، بالنسبة للبعض وأنا منهم، فالمكتبة كانت جزءا من شخصيتي ومن عملي. أنا من دمشق ونازح في دمشق، النظام لم يكتف بتدمير تاريخنا السوري بل يدمر تاريخنا الشخصي أيضا".

الباعة المفلسون

لم يعد المرور من أمام باعة "بسطات" الكتب اليوم بالأمر الممتع للمهتمين، هذا في حال تواجدهم. فقد أعلن هذا "السوق" إفلاسه في ظل الغلاء الكبير الذي يعانيه المواطن في دمشق. "أبو مصطفى" بائع قديم للكتب وعلى معرفة بمعظم زبائنه، يقول: "لم يعد بيع الكتب يجدي اليوم، الكثير من المهتمين إما هاجروا أو ليش لديهم القدرة على الشراء. لذلك أقوم ببيع السجائر إلى جانب الكتب وبعض أقراص الأفلام والأغاني. يمر كل فترة شاب ليسألني عن مجلة أو كتاب معين ويمضي في سبيله".

أبو مصطفى كغيره من الباعة، يفكر هو الآخر بتغيير مهنته أو الهجرة ربما، فالزبائن الذين كانت علاقته معهم تشكل صداقة حقيقية من شعراء شباب وكتاب وأساتذة وطلاب قد اختفوا، إما أنهم هاجروا أو اعتقلوا. يقول: "ذات مرة تصفح شابان وشابة كتابا فوجدوا عليه اسما معينا، أعادوه إلى مكانه ومضوا وعلى وجههم علامات الحيرة، وعندما فتحت الكتاب أدركت أن صاحبه معتقلا منذ فترة طويلة ولا يعرف عنه شيء".

رصيف الكتب في دمشق .. الثقافة أيضاً تهاجر