أخبار الآن | جرمانا – سوريا – ( سارة محمد )
عندما يتحول الحضن الدافىء الى وحش كاسر..يصحبه النزيف..عندما يتحول الوطن برمته الى جلاد، لايفقه الرحمة ولايعرف سوى لغة الالغاء، والقتل والتشرد وانعدام الانسانية، الى أين يذهب هؤلاء الأطفال المنكوبين ؟؟ أين يعيشون؟ مع من؟ بعد أن فقدوا ذويهم أو آبائهم تحت القصف أو تحت التعذيب في أقبية المخابرات وفروعها الأمنية، وأحيانا تتواجد أمهم لكنها غائبة عنهم تبحث لهم عن بيت يأويها أو عن قوت يومها، في ظل ذلك الظلام الكثيف من العذابات اليومية، من غلاء فاحش وحرمان وافتقاد لأدنى مستلزمات الحياة اليومية، كان لي وقفة مع هؤلاء المعذبين هؤلاء الأطفال المشردين !!
نزيف الشوارع والحارات
أربع سنوات من شتاءات تتكرر، برد وحر وأمطار وثلج يعصف في الأعماق، ومشاعر معلقة على حافة الهاوية، الوطن بالنسبة لهؤلاء الأطفال مجرد أرصفة اسمنتية يتقاسمون الحياة مع الفئران والجرذان والقطط والكلاب بين أحذية المارة وعجلات السيارات، تتقاذفهم الأيادي كالكرات ومحاولات سقيمة باستنطاق أولاد بعمر الورود غابت صور الفرح عن أعينهم وحل محلها القلق والترقب والخوف والفزع.
وكأنك تقف أمام أشباه أشباح، تتكأ على أرصفة المحلات التجارية، أو يقبعون على أرض رطبة يلفها الصقيع من كل ناحية، وعندما يحل الظلام يختفون!
عند مدخل مدينة جرمانا في ريف دمشق وتحت يافطة كبيرة تعلن عن فوز الممثلة التي عرفت بولائها للأسد وشبيحته (سلاف فواخرجي). طفلان أحدهما يرتدي قفازا من الصوف المهتريء، وكنزة صوفيه خفيفة لاتقيه برد هذا الشتاء القارص، وفي قدميه حذاء لايمت للأحذية بصلة، فهو قديم وممزق من الأمام لدرجة أن ثلاث من أصابع قدمه اليمنى الأمامية قد ظهرت بشكل واضح.
اقتربت من الطفلين كانا يفترشان الأرض تحت اليافطة العجيبة، حاولت أن أبحث عن مساحة دفء واحدة، أو فرحة صغيرة تخرج من أعماقهم وفي تجويف قلوبهم المفعمة بالحزن والألم، أداروا وجوههم عني ينبشون المكان وكأنهم يبحثون عن قطعة نقدية غابت عنهم وسط الزحام!
لايهابون المغامرة ولا المخاطر، لايخافون الموت ولا القذائف، متلحفين بالسواد كأشباه غربان، أجساد يافعة وجدت نفسها تمارس الأنين وحدها ..؟ اقتربت أكثر لأحدثهم فقلبوا لي صفحتي البيضاء لتصبح حالكة بالسواد، وبكلمات مقيدة، مرعوبة، مختصرة، يرمون لي الخوف حروفا بخناجر مسمومة.
هاهم على الرصيف تحت اليافطة المضيئة الزرقاء اللون يفترشان الأرض ويلتحفان السماء، تراقبهم الشمس أحيانا، وأحيانا القمر، وبعض من المارين، سمعت همس الفتى الأكبر يقول لصديقه أو أخيه، ربما تكون من الأمن! ابتسمت لهم وقلت لا تخف لست شبيحة ولا من الأمن! الصورة ضبابية جدا ومحزنة جدا..عندما أجابه الأصغر: لايهمنا لم نفعل شيء!
أحمد طفل في العاشرة من عمره، نزح مع أمه وأخيه الأصغر من (بيت سحم) بعد أن قضى والده تحت التعذيب، قال (كان عندنا بيت جميل، وحديقة فيها كل الأشجار نلعب بهاعندما نعود من المدرسة كان لي أصدقاء كثر، ماتوا تحت القصف، وتدمر بيتنا ولم يتبق منه حجر فوق حجر وقد تركت المدرسة أنا وأخي الأصغر لنساعد والدتنا في المصاريف بيتنا في جرمانا يشبه الحظيرة، غرفة واحدة وصالون صغير ومطبخ وحمام كل شهر تدفع أمي أجرته ثلاثون ألف ليرة سورية رغم أنه يفتقر للشمس والهواء النظيف وأغلب الأحيان بلا كهرباء، وبلا ماء لا أدري لم آجاره غالي فلا أثاث فيه سوى بعض المفروشات التي لا تصلح تعالي معي لتشاهدي بيتنا أو حظيرتنا لافرق عندي فهو لايمت للبيوت بصلة! انه قريب من هنا).
مشيت معه بعد أن استأذن من أخيه قائلا (دير بالك على الأغراض لحتى ارجع) أومأ له أخيه برأسه ذو الشعر الأشعث بنعم، على بعد مئة متر وصلنا البيت في شارع الوحدة، لم أستطع أن أصف لكم مدخل المبنى الممتلىء بالقاذورات وأكياس القمامة وقشور بيض مسلوق، وقفت أمام درج طويل وضيق بأحجار متكسرة يبرز منها حديد صدء..قال لي: انزلي لو سمحتي يا آنسة !! اتكأت على الجدار وأشعلت ضوء الهاتف الخلوي ليتثنى لي أن أنزل تلك الدرجات الصعبة دون أن أتعثر، فاجئني الطفل بنزوله السريع وكأنه قد حفظ السلالم عن ظهر قلب دون أن يستعين بأي انارة سوى ذلك الضوء الشحيح المنبعث من هاتفي الخليوي كان يقفز درجتين معا وهو يتمتم أغنية لم أسمعها من قبل !!
طرق على الباب القديم والمصنوع من أخشاب رديئة، ففتحت لنا سيدة في الثلاثينيات من عمرها قالت لابنها: من هذه يا أحمد ؟؟ لاتقلقي أمي إنها صحفية همس في أذنها قائلا (لاتخافي منها).
ابتسمت الأم قائلة: أهلا وسهلا تفضلي سحبت من المطبخ كرسي بلاستيكي، مسحته بقطعة قماش ووضعت فوقه وسادة مزركشة بعدة ألوان قالت: لاتؤاخذينا على هذه الكركبة ..اجلسي!
الحقيقة أنني لم ألحظ كركبة المنزل بقدر ما انتبهت الى ذلك الفقر المدقع الذي يلف البيت من كل جانب! فلا أثاث في المنزل سوى ثلاث صوفيات حديدية في الصالون ويبدو أنهم ينامون عليها أما غرفة النوم الوحيدة فهي خالية من كل شيء سوى من طاولة بلاستيكية قد وضعت الأم عليها بعض الثياب ..وبطانيات من صوف..تستند على نافذة الغرفة المغطاة ببقايا قطعة قماش.
لفني البرد من كل جانب، فلايوجد رائحة للدفء، فقط مدفأة صغيرة فيها سلكين كهربائيين تنتظر عودة التيار الكهربائي المقطوع أغلب الأوقات، الجدران تكاد تسقط على رؤوس ساكنيها من كثرة التشقق والعفن وتسريب المياه من الطوابق الأخرى، والبلاط قديم جدا ومحفور عند الزوايا يسمح ماتبقى من الحشرات والقوارض والزمهرير أن يحلو كضيوف ثقلاء الظل عند هذه العائلة اللطيفة، وعلى ضوء الشموع صبت لي القهوة قائلة: "الحمد الله على كل شيء الله بعتلي ولدين مطيعين عوضني عن فقدان والدهم، وأنا تعبت من استجداء الآخرين وطلب الرحمة من الناس، تعرفني أرصفة الشوارع والحارات كلها ..كنت اجثو عليها كالكلاب الداشرة، والناس تجلدني بنظراتهم المثيرة للشفقة، وترمي لي بعض النقود ..ولا زالت الأيام تعركلني دون أن تحمي أطفالي ولا أحد يشاركني أنين أيامي التي مضت، السنون تمر علي من دون زوجي أحسها فارغة ..كل شيء غريبا عني ! كان يدللني وكل طلباتي مجابة، كنت ست البيت لايهون عليه أن يزعلني أبدا .. (كنا فين وصرنا وين!) الآن أخدم في البيوت ولا يكفيني مصاريف البيت وأولادي..الشغل أهون من الذل للناس وطلب المال. .الحمد الله ..ماهذه الحياة؟ …… والله الموت أرحم ".