أخبار الآن | الرقة – سوريا – (عزام الحاج)

فيما يتناوب الطيران الحربي لكل من التحالف والنظامين السوري والروسي ثم مؤخراً الطيران الحربي الفرنسي على قصف مدينة الرقة، التي تُصور على أنها عاصمة ومعقل داعش في سورية، يجد المدنيون في الرقة أنفسهم وسط تقاطع نيران مهلك بين الطيران المغير من الجو والممارسات الإرهابية الداعشي على الأرض، مٌعتقلين ومُحاصرين دون حول أو قوة ولا منفذ مفتوح للنجاة.

طريق الهرب الصعب نحو تركيا

مع انسحاب داعش من المناطق التي كان يُسيطر عليها في شمال الرقة في شهر حزيران السابق، بدأت مخاوف المدنيين الرقيين من نُذر اقتراب معركة الرقة تتعاظم، وبدأت أعداد جديدة منهم تبحث عن طرق لمغادرة المدينة على وقع القصف اليومي من السماء والقيود والتضييق على الأرض.

لكن طرق التهريب المباشرة نحو تركيا عبر تل أبيض وريفها أصبحت تحت سيطرة "الوحدات الكردية" التي تعامل سكان المحافظة على أنهم دواعش فعليين، والتوجه نحو مناطق سيطرة النظام محفوف بمصاعب ومخاطر من نوع آخر، أصغرها ضنك المعيشة وأكبرها امتهان الكرامة أو الاعتقال، أما طرق التهريب نحو تركيا عبر حلب وإدلب فتستلزم رحلة شاقة وغير آمنة قد تنتهي بالاعتقال بحجة الانتماء الفعلي أو المحتمل إلى داعش.

اختناق الرقة

وما زاد الأمور صعوبة خلال الأيام القليلة السابقة، بالتزامن مع تكثيف القصف الجوي على مدينة الرقة، هو فرض داعش قيوداً جديدة على حركة وتنقل المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرته في محافظة الرقة. إذ أصدر تعميماً يمنع فيه سفر الذكور ممَنْ تتراوح أعمارهم بين 14 عاماً و40 عاماً إلى خارج المدينة. وبذلك تحولت "مدينة الرقة إلى سجن حقيقي ومسلخ لأهلها"، حسب تعبير رجل من الرقة، اختار لقب "أبو جمال" اسماً له.

يقول أبو جمال: "أحاول السفر مع عائلتي منذ ثلاثة أشهر، لكن السبل مسدودة في وجهي .. حملي ثقيل، لدي ثلاثة أطفال وووالدي مسنين، والدي مقعد ويحتاج إلى من يحمله". ويضيف "لا تأثير مباشر لقرار داعش الأخير، فأنا تجاوزت الخامسة والأربعين ووالدي تجاوز الخامسة والستين وأكبر أطفالي لم يبلغ الحادية عشره من عمره".

ويُفسر قرار داعش هذا بأنه "حبس للناس من أجل إجبارهم على الالتحاق به ولتحويلنا جميعاً إلى درع بشري يحمي فئرانه بنا". ثم أن صعوبات الحياة ومنع السفر ليست كل ما يُثقل على الناس هنا "أنا أقف في الشاع، عند زاوية مقهى الإنترنت، أثناء تحدثي إليك .. الجلوس داخل المقهى للتواصل مع الأصدقاء والأقارب خارج الرقة يجعل الواحد منا عُرضة للتفتيش .. لا تدري متى يكبس أمنيو داعش على المقهى".

وفوق ذلك بدأت الأحوال المعيشية تصبح أكثر صعوبة "الأسعار بدأت ترتفع خلال الأسابيع القليلة الماضية وبعض البضائع اختفت من الأسواق .. ربما بسبب تضييق الخناق على داعش .. الله يستر، إذا ظلت الأمور على هذا الحال رح تسمع عن جوع حقيقي في الرقة .. يجوز تشوف الرقة كلها على باب المطبخ الإغاثي".

ويشرح الفارق بين غارات التحالف والفرنسيين وغارات النظام والروس بقوله: "غارات الروس لئيمة ومخيفة .. نعرفها من نتائجها، فهم لا يميزون في قصفهم، وغارات التحالف والفرنسيين أكثر دقة، حتى الآن لم أسمع بوقوع مدنيين ضحايا لها .. غارات النظام وبوتين هي الأكثر إيقاعاً للضحايا من المدنيين .. ولا يهمهم إذا جاء القصف على سوق أو مشفى أو بيوت الناس. بس الله يستر، إذا طالت الأمور يصير الكل يضرب بلا تمييز، لأنه نحن صرنا البردعة… الكل يقدر علينا".

وعند سؤاله عن تقديراته لأعداد السكان الذين هجروا بيوتهم، قال أبو جمال: "لا أعرف بالضبط، لكن أكثر من ثلثي أهل حارتي خرجوا منها خلال العامين الأخيرين نحو وجهات مختلفة، وأنا ما زلت أبحث عن فرصة للسفر أيضاً. أريد أن ينجو أطفالي، ولكني لا أستطيع ترك والدي وحدهما، ليس لهم أحد الآن في الرقة سواي".

وأبو جمال، الذي كان اُعتقل مرتين أثناء الأشهر الأولى من الثورة، لا يفكر في الذهاب إلى مناطق سيطرة النظام "أخاف أن يتذكروني .. أن يكون اسمي ما زال في قوائمهم على الحواجز".

صورة قائمة ومُقبضة للنفس هذه. قصف وحصار وإرهاب وقيود وموت في أية لحظة وفي كل مكان، هي واقع حال مئات الآلاف من البشر ممَنْ حولتهم ظروف الصراع إلى مادة وساحة لتصفية حسابات ما كانوا يوماً طرفاً فيها.