أخبار الآن | حلب – سوريا (مراد الشواخ)

استوقفتني مقابلة للكاتب المعارض "ميشيل كيلو" يتحدث فيها عن فترة اعتقاله في فرع التحقيق العسكري، وقصته مع الطفل الذي وُلد داخل السجن لأم "ابنة معارض" اعتقلت كرهينة في الثمانينيات. في القصة الخاصة بـ "كيلو" لم يعرف الطفل معنى عصفور وشجرة وطيران وغيرها بسبب عدم إدراكه لتلك المعاني وهو ينمو داخل معتقلات الأسد الأب. فقد "كيلو" قدرته على الكلام وطلب مغادرة زنزانة الأم العشرينية.

أستذكر هنا فترة اعتقالي في إدارة المخابرات العسكرية في دمشق آب / أغسطس 2011، فرغم إيماني الكامل بقضية الثورة إلا أني أوشكت على الانهيار، كان الاعتقال الثاني لي بعد أقل من شهر من الإفراج.

أنا ثامن سبعة أشخاص محشورين في "منفردة" مساحتها لا تزيد عن متر ونصف، يغطي "المرحاض" الأرضي أكثر من نصف مساحة المنفردة.

لا زمان هناك سوى موعد سماع أصوات التعذيب في أروقة السجن الذي يقع في الطابق الثاني تحت الأرض، ومن شتائم السجانين شديدة القذارة عرفت أن معظم الذين يتعرضون للتعذيب هم ضباط في الجيش السوري رفضوا المشاركة في اجتياح محافظة "درعا" لقمع المتظاهرين بداية الثورة.

شعور رهيب بالغربة وكأني أسير لدى دولة أخرى، جميع السجانين والمحققين يتكلمون بلكنة السلطة الخاصة بالطائفة "العلويّة"، أما نحن المعتقلون فلهجات سوريا تعبر عنا "الحورانية والإدلبية والديرية والحمصية والحموية".

يصرخ السجان مغلطا بكنيتي "مراد الشيخ"، أشهق وأتمنى أن يكون فعلاً هناك شخص آخر بهذا الاسم، وبكل أنانية اتمنى ألا يكون السجان أخطأ في لفظ اسم عائلتي لأن ذلك يعني أنه دوري في التحقيق وأنا لا أرد.

يكرر السجان صراخه وصوته يقترب من المنفردة، وسيل من الشتائم القديمة والجديدة التي اخترعوها بحقد غير مسبوق. عيناي مغمضتان وأضغط بقوة أعصابي على قبضة يدي متمنياً أن أستيقظ من كابوس أو أتلاشى أو أي شيء سوى وقوعي بين أيادي المحققين.

يصل السجان ويقف على الباب الأسود وصوت القفل يفكّ القفل أربع مرات بسرعة كبيرة، جميعنا يقف مديرا ظهره للباب حسب قانون المعتقل وأنا فعلت ذلك، شتمني السجان وقال لي: "لشو منك مترد" فأجبته بأن هناك خطأ في اسمي، أنا "مراد الشواخ" وليس "الشيخ"!، فانهال على بالضرب وسحبني خارج المنفردة وهو يصرخ : "لأنو نحن بدرس إملاء يا ..".

يعصب السجان عيناي بجوارب أحد المعتقلين، يداي خلف ظهري ويقتادني من رقبتي، أصل نحو الغرفة الموعودة، يوصد الباب بمجرد دخولي وينهال أحدهم علي بالضرب ثم "حفلة" التعذيب والشتائم.

بالغت بالصراخ أكثر من المعتاد وأنا أحسب أن ذلك قد يفيدني، مع ادّعائي بانقطاع نفسي وبالإغماء، في إشباع الرغبة السادية لهؤلاء الوحوش، لكن هذا لم يكن مجديا.

بعد حفلة التعذيب وضعوا الحبر على إبهامي وبصمت على أوراق ربما 3 أو 4 أوراق لا أعرف ماذا كتب بها ولم أعرف ماذا بها حتى الآن.

عندما أعادوني إلى المنفردة بعد ساعات وضعت على الفور وجهي على الباب الحديدي البارد لتخفيف آلامي. هنا كانت حصتي اليومية من الطعام "زيتونتان ونصف رغيف خبز" كان رفاقي قد تقاسموها ظناً منهم أني سأبقى في التعذيب لأيام كما حدث معهم.

مرت ثلاثة أيام يمنعنا ضيق المكان من النوم وأنا أتوسل لمن معي أن لا يسمعوني صوت بكائهم فأنا مثلهم على وشك البكاء. فسماع صوت بكاء الرجال سيجعلني أبكي؛ والبكاء سيقودني إلى الانهيار وهذا يعني نهاية صمودي النفسي وربما ذهاب العقل، كما في حالة المعتقل لدى النظام. أبقيت تركيزي على وتيرة عالية كي لا أبكي، فلا دافع للحياة في ذلك المكان سوى الأمل الذي سيندثر إذا بدأت نوبات البكاء.

وضعنا قانونا خاصا بنا لنستطيع الاستمرار، يقف أربعة منا ويجلس أربعة آخرون، كان مجرد التزامنا بقانون وضعناه نحن يشعرني بالانتصار!.

ثقوب صغيرة تسرب بعض الضوء البرتقالي في السقف الحديدي للصندوق المحشورين فيه، لكنني لم أزل أعجز عن رؤية أصابعي إلا عندما يحين دوري في الوقوف.

حان دوري في الوقوف ليجلس شريكي في الـ "ثلاث بلاطات" مكاني وعلي أن أقف على قدم واحدة. وأنا متكئ براحة يدي على الحائط شعرت بأن هناك رسم محفور على الحائط، استخدمت زراً معدنياً كان قد قطع من سروالي الجينز لأعكس بعض الضوء باتجاه جدار المنفردة فرأيت "روزنامة" بدائية لشخص أحصى الكثير من أيامه في المنفردة وقرأت العبارة التالية التي لن أنساها:

"مضى عام وهنا سأكتفي بالعد، أنا مُعلم لغة عربية قضى عاماً في هذه المنفردة بذنب أن ضابط مخابرات سألني إن كنت أحب الله أكثر من حافظ الأسد فأجبته بنعم" تموز 1999/ 2000.

عام كامل! وأنا فقدت شعوري بإنسانيتي وكرامتي خلال ثلاث أيام فقط. هنا أدركت أن ثورتنا جعلت هؤلاء المعتقلين يخرجون من هذا المكان لنأتي نحن ويتظاهر غيرنا لأجلنا ويعتقل لنخرج نحن.

بعد خمسة أعوام على انطلاق الثورة أذكّر نفسي دائماً كلما أصابني الوهن واليأس بتلك اللحظة، حينها فقط شعرت بالرضا الكامل من جديد عمّا نقوم به لأننا ثوار ولأننا قبل الثورة لم نكن "عايشين".