أخبار الآن | الرقة – سوريا (عزام الحاج)
بينما ينشغل الناس في كل مكان من العالم بالقصص الكبرى، صراعات وحروب وثورات وهجرات ومآسٍ تطال ملايين البشر، لا يكاد أحد يلتفت لتلك الحكايات الصغيرة، التواريخ الشخصية لأناس من لحم ودم ومشاعر وأحلام؛ فيذهبون وتذهب قصصهم أدراج الرياح فيما هم المادة البشرية الغفل لكل ما يجري على هذه الأرض. لكن الحال اليوم في سوريا يجمع بين الإثنين. الثورة ومآلاتها والمصائر الغفل لملايين السوريين، وفي داخلها ملايين القصص المفردة الجزئية المؤلمة والصادمة.
قرر السيد "حميد العلي" أن ينجو بأسرته المؤلفة من زوجته الحامل وطفلتيه من جحيم داعش وخطر المعارك التي تقترب من قريته الواقعة في شمال غرب الرقة. ولأن داعش يمنع سفر الناس من مناطق سيطرته ويتخذهم درعاً وسياجاً لحماية مرتزقته، ولأن حميد لا يملك مالاً يدفعه لمافيات تهريب البشر النشطة في مدينة الرقة وريفها، فقد قرر أن يتسلل بشكل متدرج وصولاً إلى تركيا، مقصده الأخير.
خرج وزوجته وطفلتيه بذريعة البحث عن الفطر الذي يكثر في هذه الآونة في الأراضي البور على تخوم مدينة الرقة. وراحوا يتنقلون سيراً على الأقدام بين "بيوت الأجواد، من بيت إلى بيت"، كما يروي شقيقه المقيم في تركيا. ثلاثة أيام من المشي البطيء مع الزوجة الحامل وابنتيه الصغيرتين إلى أن وصلوا جميعاً إلى خلف خطوط داعش القتالية في مواجهة القوات الكردية شمال مدينة الرقة. هناك آووا إلى بيت مهجور يقع وسط تقاطع نيران بين داعش والقوات الكردية؛ وفجأة حدث اشتباك بالنيران بين الطرفين فضربت قذيفة البيت الذي لجأوا إليه لتصيب زوجته الحامل في مقتل؛ ولشدة خوفه على طفلتيه المصعوقتين الباكيتين أمام جسد أمهما المدمى، نزع قميصه الداخلي ورفعه على عود كراية بيضاء تخبر المتقاتلين بوجودهم وسط النيران وخرج تاركاً صغيرتيه وحدهما.
انتبهت القوات الكردية إليه ثم سمحت له ولطفلتيه بالمرور إلى ما خلف خطوطها؛ ويستكمل شقيق حميد الرواية، لكن "حاجز بير عاشق -شمال شرق مدينة الرقة- منعهم من المرور لعدم وجود ورقة كفيل، فحميد لا يعرف أحداً في تل أبيض"، حيث يريد أن يصل كمرحلة أولى. فاضطر أن يلجأ وطفلتيه إلى بناء مدرسي في قرية "الحاوي"، تبعد حوالي 5 كيلومترات إلى الشرق من بلدة تل أبيض، حيث كان وطفلتيه يتناوبان والطلاب الذهاب إلى المدرسة. فكان والصغيرتان يأوون إليها ليلاً ويخرجون منها مع قدوم التلاميذ إلى مدرستهم صباحاً. بقوا على هذه الحال أياماً قبل أن يعاود أمنيو القوات الكردية، المسيطرة على قرى المنطقة، التدقيق في حالهم والتحقيق مع حميد بحجة أنه جاسوس لصالح داعش، ومن ثم طردهم باتجاه الرقة.
وحال الوصول إلى خطوط داعش تم القبض على حميد "بحجة التجسس لصالح القوات الكردية"، ما دام قد قدم من مناطق سيطرتها؛ وبقي "رهن الاعتقال لمدة 18 يوماً". وبعدها خرج لُيلحق مرغماً "بدورة شرعية" ويؤدي أعمالاً شاقة لصالح داعش.
يمضي حميد يومه بين دورة شرعية يُفترض أن تجعل منه "مسلماً صالحاً" في الصباح و"تعبئة أكياس الرمل"، التي يبنى بها داعش متاريسه في المساء. سيرة حميد وأسرته الصغيرة وحاله اليوم تختزل حال المدنيين جميعاً تحت القهر الداعشي في الرقة وأريافها ودير الزور وأريافها وكذا في أرياف الحسكة حيث يعيش المدنيون جحيم العنف اليومي القادم من كل مكان ومن الأطراف كافة. في الصباح يغسل داعش له دماغه ويحوله بعد الظهر إلى آلة تعمل له وهو وطفلتيه وكل المدنيين في المساء درع بشري يقي مرتزقة داعش قنابل وصواريخ صانعيه.