أخبار الآن | دمشق- سوريا (يمنى الدمشقي)
ربما لن تتمكن رائحة التوابل والبهارات والأكلات السورية العتيقة أن تطغى على رائحة الدم في شوارع سوريا، لكنها ربما قد تتمكن من أن تكون جزءاً من مكوّن سوريا الحضاري الذي قد يعطي وجهاً آخرا لسوريا غير وجه القتل والموت الذي نعيشه كل يوم، وتنشره وسائل الإعلام على امتدادها.
حالما بدأ السوريون برحلة النزوح حملوا معهم نكهاتهم، وأكلاتهم، وطبخاتهم، وربما وجدوا فيها المجال الأكبر لتحقيق فوائد لهم سواء من خلال جني أرباح مادية أو من خلال نشر ثقافة المطبخ السوري في العالم، وبالتالي الحفاظ على جزء مهم من حضارتهم، فافتتحت المطاعم وغصّت بالرواد وحافظت بذلك على أصالة المطبخ السوري دون محاولات خلطها بثقافات أخرى حتى مع اختلاف البيئة، ولأن الطبخ جزء من ثقافة الشعوب وربما جزء مهم جداً، تمكن الشعب السوري في هذا المجال تحديداً من أن يبدع وبشكل كبير فيه.
بين الملوخية السورية والملوخية المصرية
ربما شهدت مصر أكبر نسبة انتشار للمطاعم السورية، حتى تمكن السوريون من إحياء شوارع وأحياء بأكملها من خلال تنشيطهم لذلك المجال فيها، وساعد على ذلك إقبال الشعب المصري على تجريب مختلف أطباق الشعب السوري حتى بات الكثير منهم يفضلها على أطباقهم الشعبية الرئيسية، وتحكي "سارة" فتاة من مصر تجربتها مع المطاعم السورية قائلة: "إن ثقافة المطبخ التي حملها السوريون معهم إلى مصر قد أبهرت الشعب المصري بشكل عام، فبعدما كنا نتخيل أن أكلات كثيرة قد لا تصنع إلا بطريقة واحدة بتنا نجرب ونرى أكثر من طريقة تقدم بها وبأشكال مختلفة، فالملوخية مثلاً كنت أعتقد أنها لا تقدم إلا كالحساء لكني فوجئت أنها تطبق بأوراقها وتكون لذيذة جداً، ومثلها ورق العنب المتنوع بالزيت أو باللحمة، أما الحمص فكانت استخداماته محدودة جداً حتى تذوقت "فتة الزيت وفتة السمنة" ثم علمت أنه يصنع به "مسبحة" كذلك التوابل التي تضاف إلى الفول والفلافل جعلت لها طعماً فريداً في المطبخ السوري، ما يثير الضحك أني في المرة الأولى التي تناولت فيها الملوخية طلبت مني صديقتي السورية أن آكلها وأحزر ما هي، في البداية شعرت بالغرابة من شكلها! لكن ما إن علمت أنها ملوخية تفاجأت كثيرة وبت أطلب من أمي أن تحضرها مثل السوريين".
وتضيف سارة: أعتقد أن الشعب السوري شعب ناجح، يستطيع أن يتأقلم مع جميع الحالات التي يوضع بها، فالتفكير التجاري الذي يتمتع به السوريون جعل منهم أشخاصاً قادرين على التطوير، ولطالما سمعت من جدتي التي عاشت فترة لا بأس بها في سوريا عن مشاهداتها لمطاعم صغيرة كيف بدأ أصحابها بطبق صغير ثم بات لهم أسماء لامعة في مجال الطبخ.
السر بين حكاية رغيف وما كدونالدز
أما "أحمد زهر البان" وهو شيف سوري مقيم في السعودية فيرى أن: "نجاح المطبخ السوري اعتمد على الشعب السوري نفسه، فذائقة الناس العالية جداً جعلت المطبخ السوري متميزاً أينما وجد، أيضاً نوعية المواد الأولية التي تستخدم في المطبخ السوري سواء زيت الزيتون أو البهارات أو الكونسروة، ساعدت المطبخ السوري أن ينجح، فنفس الطبق قد يعده شخصان سوريان أحدهما في سوريا والآخر خارج سوريا وتكون طعمته مختلفة في الحالتين، وكوني مقيم في الخليج فالمطاعم السورية ذات شعبية كبيرة وناجحة من حيث النوعية، لكنها تعاني من مشكلة وهي ضعف التسويق، أي أنها لا تشبه المطاعم اللبنانية التي تتمكن من التسويق لنفسها بشكل أفضل رغم تنوع الأطباق السورية وكثرتها، فالسوريون قبل تركيزهم على التسويق يركزون على تقديم طعام جيد يحظى بإعجاب الذواقة قبل تركيزهم على كيفية التسويق لهذا الطبق، فعلى سبيل المثال ماكدونالدز هو مطعم يحمل بضع وجبات محدودة جداً لكنه تمكن من التسويق لنفسه بشكل كبير، وهناك مشكلة أخرى نعاني منها في سوريا فصاحب المهنة أو الشيف يحافظ على سر تحضير أطباقه دون أن يبوح بذلك السر لأحد خشية أن يتم صرفه من العمل دون حفظ حقوقه وبمجرد تغيير الشيف تتغير جودة الطعام".
ويتحدث أحمد عن تجربته في هذا المجال قائلاً: بدأت المهنة بمنطقة "عين الفيجة" بوادي بردى وهي ذات إقبال سياحي كبير، وكنت حينها في الصف السادس الابتدائي، وانتقلت تدريجياً حتى بلغت درجة من الاحترافية وتنقلت بين حمص واللاذقية ودمشق، لكن الخبرة الحقيقية أخذتها من انفتاحي على العالم عبر خروجي من سوريا وتعلمت في مطاعم عالمية عدة منها الإيطالي والأميركي والبرازيلي وغيرها، وحصلت على رتبة مدير مطاعم وكنت أحلم بها طويلاً في سوريا، والآن قمت بتأسيس مطعم جديد اسمه "حكاية رغيف" وأخطط لانتشاره في خمس أفرع في المنطقة المقيم بها وأرجو أن تكون نقطة انطلاق موفقة لي".
ويضيف أحمد: "أهمية الهوية والتراث تنبع من أدق التفاصيل سواء من حيث اسم المطعم أو من حيث شكل اللوغو أو ألوان الديكور وهذا ما اتبعته على أمل أن يحظى بالعالمية، وانطلقت من هذا الاسم كوني أحببت أن أضيف له لوناً تاريخياً".
تجربة المطبخ السوري في ألمانيا
"ملكة جزماتي" إعلامية سورية عرفت على شاشة أورينت ببرنامجها عن المطبخ، تحكي في حديث خاص لأخبار الآن كيف تمكنت من نقل تجربة المطبخ السوري إلى مجتمع ذو ثقافة مختلفة كلياً وكيف تمكنت من أن تكون جزءاً من هذا التراث، تقول: "نحن بإرادتنا نختار أن نكون جزءاً من المكون التراثي لأي شيء عندما نقدر قيمته الحقيقية وخاصة في مجال الطبخ، فالمطبخ ليس مجرد عملية لتعبئة المعدة، فعندما تؤمن أنك جزء من هذا التراث أؤمن أنه علي أن أسعى لإظهاره بالصورة الأحسن، وعندما أتخلى عن مطبخي فأنا تخليت عن تراثي، فالمطبخ طريقة جميلة وسلسة للتعبير عن الحب بين الناس خاصة عندما تكون اللغة عائقاً بينهم، فحتى أخبر شخص أني أحبه هنا أحضر له طبق ورق عنب مثلاً، لاسيما أن هذه الأكلة تتطلب الكثير من الوقت، ففي طبخة رسالة أستطيع أن أوصلها للشخص المعني".
وتضيف ملكة: "عندما أتحدث عن الطبخ لا أتحدث عن كأس أرز وملعقة بندورة، فالمطبخ بالنسبة لي يلهمني الكثير من الأشياء رغم حداثة معرفتي به، أنا من خلال الطبخ أستطيع أن أضع الكثير من روح بلدي فيه، وقد أتحدث على الغذاء مع أشخاص ألمان أن الشعب الذي تنزل عليه القنابل بإمكانه أيضاً أن يصنع أشياء جميلة كهذه اللوحة من الأطباق، ومن يجلس ويخترع مثل هذه الأطباق الجميلة شعب لم يكن يهمه إلا السلام ونشر الجمال، فبإمكاننا بطريقة أو بأخرى أن ننتزع كلمة رصاص من جانب كلمة الشعب السوري، أحاول في كل مرة أن أقول لهم أننا من خلال أكلاتنا أننا شعب يحب الفرح والاجتماع، نحن نتمكن في كل يوم من الاجتماع وبث روح المحبة ولو كان من خلال طبق مجدرة، روح الألفة والأسرة الموجودة بيننا جعلت لمائدتنا مذاقاً مختلفاً، نحن ليس عندنا سندويش برغر تستطيع أن تأكلها وحدك وفي أي وقت، نحن عندنا الاجتماع على المائدة جزء من نجاح تراثنا في هذا المجال".
ورغم امتداد جغرافيا المطبخ السوري وغياب بعض المكونات عن بسبب اختلاف البيئة الزراعية، إلا أن ذلك لم يمنع من تمكن المطبخ السوري بشكل عام من الحفاظ على أصالته دون أن تفتك الحرب بتلك الأصالة كما فتكت بالأرض والشعب.