أخبار الآن | بريطانيا – bbc
في أوائل أغسطس/آب عام 2014 وصلت سيارتان تحملان أعلاماً سوداء إلى القرية التي تعيش فيها الإيزدية جوان مع زوجها خضر وأطفالهم الثلاث.
سرعان ما ادرك سكان القرية أن أولئك الرجال هم من مسلحي “تنظيم داعش” الارهابي.
وعد أولئك الرجال أهالي القرية بعدم إلحاق الضرر بهم إذا تعاونوا معهم. فتم إجبارهم مع حوالي 20 أسرة أخرى ، على السفر مع القافلة من قرية إلى أخرى في وادي سنجار.
وعندما سمع سكان سنجار خبر وصول عناصر التنظيم إلى وادي سنجار، هرب القرويون إلى الجبال المحيطة بالبلدة.
وطلب قائد القافلة، وهو من رجال التنظيم، من خضر الذهاب إلى الجبال وإقناع القرويين بالعودة إلى ديارهم وأنهم لن يلحقوا الضرر بأي واحد منهم.
يقول خضر: “لقد أوصلت الرسالة لكن لم يصدقها أحد”.
وكان شقيقه واحداً من الذين فروا إلى الجبال. أراد خضر العودة إلى عائلته، لكن شقيقه منعه قائلاً إن العودة بمثابة الانتحار.
لا يعرف أحد بالضبط أعداد الإيزديين الذين اختطفهم التنظيم، ويقدر ممثلٌ خاص لدى الأمم المتحدة أنه من بين 400 ألف إيزدي عاشوا في سنجار في ذلك الوقت، قُتل الآلاف منهم، واختطف واستعبد أكثر من 6400 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، وتم بيعهم وضربهم واغتصابهم.
وضعت جوان وأطفالها الثلاثة وحوالي 50 امرأة وطفل آخرين من القرية في شاحنة، وانتهى بهم المطاف في الرقة، التي يسيطر عليها التنظيم الإرهابي.
ولم ترَ جوان زوجها خضر، إلا بعد أربع سنوات.
أدركت جوان أن المكان الذي نُقلت إليه في الرقة كان سوقاً لبيع العبيد (الأسرى).
واحتُجزت هي وأطفالها في مبنى مكون من ثلاثة طوابق مع 1500 امرأة وطفل آخرين. معظمهم من أقارب جوان في القرى المجاورة أو من جيرانهم بحسب ما قالت.
وتقول: “كنا نحاول أن نعطي بعضنا البعض القليل من الأمل، في انتظار معجزة لإطلاق سراحنا”.
تم بيعها في النهاية إلى مقاتل تونسي شاب نحيف أطلق على نفسه اسم “أبو مهاجر التونسي”، وكان قائداً رفيع المستوى في التنظيم.
بكت جوان لليالٍ، وحاولت الهروب عدة مرات.
كان ابنها الأكبر، هيثم يبلغ من العمر 13 عاماً، لكن الأصغر آزاد، كان في الثالثة من عمره. وفي كل مرة اكتشف المهاجر التونسي محاولتها الهرب، حبسها في غرفة لعدة ايام.
فكرت جوان بالانتحار، لكن التفكير بمستقبل أطفالها وما سيؤول إليه حالهم، منعها من الإقدام على ذلك بحسب قولها.
فلم تجد مفراً في نهاية المطاف سوى اعتناق الإسلام، وأصبحت زوجة التونسي وانتقلت معه وبرفقة أطفالها إلى منزل في الرقة، كان أصحابه قد هجروه بعد سيطرة التنظيم.
حافظ التونسي على وعده لجوان وعامل أطفالها بشكل حسن، إذ كان يأخذهم للعب في حديقة صغيرة قريبة عندما لم يكن في المعركة.
تفاجأت جوان بعد خمسة أشهر أنها حامل وتقول: “كنت مرتبكة، ولم أعرف ما الذي يجب فعله، فلا توجد أي أدوية هناك”.
وبعد سبعة أشهر من حملها، تلقت جوان خبر مقتل أبو مهاجر التونسي في المعركة.
ولد طفلها آدم في وقت كانت الرقة تتعرض لغارات جوية مكثفة من قبل التحالف الأمريكي، ولم يكن هناك من يساعدها سوى ابنتها حواء وابنها هيثم في ولادة أخيهما غير الشقيق.
تقول جوان: “لم يكن أطفالي متأكدين من شعورهم تجاه شقيقهم الجديد الذي بدا مختلفاً تماماً عنهم “.
“أعتقد أن أطفالي أحبوه، لقد اعتنوا به، وخاصة ابنتي حواء التي كانت مثل صديقة لي، كانت تطعم آدم وتهتم به وترعاه وتهزه لمساعدته على النوم”.
أجبرت عمليات القصف المنتظمة جوان على تغيير منزلها عدة مرات، كما كانت الكهرباء تنقطع باستمرار، ولم يكن هناك وقود أو طعام كافٍ للجميع.
كانت الأم تأكل قليلاً جداً لتوفر المزيد من الطعام لأطفالها، وتقول : “أحياناً لم نكن نملك سوى القليل من الماء والخبز والسكر، وكنت أعلم أنني إن لم أتناول طعاماً كافياً، فلن أتمكن من إرضاع طفلي آدم، لكن لم تكن لدي خيارات أخرى”.
وتضيف: “رغم كل الصعوبات التي واجهتها، كان وجود آدم يدفعني إلى الصبر والاستمرار، لقد كان يجذبني إليه كالمغناطيس رغم أن والده كان قاتلاً، لكن آدم جزء من جسدي ودمي”.
في العراق ، لم يكن خضر يعرف شيئاً عن طفل زوجته الجديد ، أو حتى مكان أسرته.
بحث عنهم دون كلل، وفي كل مرة سمع عن إطلاق سراح نساء إيزديات مع أطفالهن من سوريا، كان يتجه إلى الحدود أملاً أن تكون أسرته، لكن بلا جدوى.
وفي النهاية عرف مكان وجودهم عن طريق شبكة من المهربين الذين كانوا يشترون النساء الإيزديات المختطفات لدى داعش ويبيعونهن إلى ذويهن خلف الحدود في العراق.
كان على خضر تأمين مبلغ ستة آلاف دولار من أجل تهريب كل طفل من أطفاله الثلاثة.
واستطاع الأب أخيراً لم شمل أبنائه هيثم وحواء وآزاد، لكن جوان بقيت عامين آخرين في الرقة، لأنها لم تكن متأكدة من تقبل خضر لطفلها آدم.
كان خضر مهموماً لشهور حول ما يجب القيام به في مجتمع إيزدي يعيش قواعد صارمة، ويحرم الزواج من أبناء الديانات الأخرى.
لا يجوز في الديانة الإيزدية ترك الدين، وكل من يتخلى عنها لا يُسمح له بالعودة إليها مدى الحياة.
لكن المجلس الديني الإيزدي خفف من هذه القاعدة وقبل بعودة النساء المختطفات اللواتي أجبرن على اعتناق الإسلام من قبل داعش، أما بالنسبة للأطفال المولودين من عناصر التنظيم، فالأمر مختلف تماماً.
تقول النصوص الإيزدية، أنه لا يمكن للشخص أن يعتنق الديانة الإيزدية، بل يجب أن يولد بها، لذلك لا يُقبل الأطفال الذين ولدوا من أمهات إيزديات وآباء مسلمين في المجتمع الإيزدي لأن أحد الوالدين ليس إيزدياً.
كانت جوان تعيش مع الكثير من النساء الإيزديات المختطفات اللواتي كن يخشين العودة إلى ديارهن بسبب هذه المحرمات في ديانتهن.
بعد أن أدرك خضر أن أطفاله يحتاجون والدتهم، أخبر جوان أن باستطاعتها اصطحاب طفلها آدم معها، فعادت جوان إلى سنجار بصحبة الطفل.
ولكن بعد بضعة أيام، تغير الوضع، وحاول خضر إقناع زوجته بالتخلي عن آدم.
تقول جوان: “بدأ الجميع يتحدث معي حول قدسية ديننا وعن استحالة قبول مجتمعنا لطفل مولود من أب “داعشي”.
وفي أحد الأيام، اصطحب خضر زوجته للقاء سكينة يونس، وهي مديرة دار الأيتام في الموصل. لإقناع جوان بالتخلي عن طفلها في دار الأيتام.
وتصف جوان ذلك اليوم قائلةً: “كان خضر محبطاً ويبكي، وكنت أحتضن طفلي بقوة، لم يكن الأمر سهلاً أن أتخلى عن طفلي”.
وتقول سكينة: “لا يوجد أسوأ من أن تحرم أم من طفلها، عندما سلمتني طفلها، كانت تذرف الدموع بغزارة، لكن قوانين المجتمع الإيزدي أكثر أهمية من مشاعر الفرد. اتفقت أنا وزوجها على أخذ الطفل، واضطررنا للكذب عليها كوسيلة وحيدة لإقناعها”.
وأخبرت سكينة جوان أنها يجب أن تترك آدم معها لبضعة أسابيع فقط ، لأنه مريض وبحاجة للعناية، وإنها تتعهد بحل مشكلتها قدر المستطاع”.
وهكذا سلّمت جوان طفلها إلى دار الأيتام دون أن تعرف ما الذي ينتظرها وودعته بدموعها.
لم تستطع جوان التوقف عن التفكير بطفلها وتقول: “كيف يمكنني أن أنساه؟ إنه طفلي، هل نحن النساء مخطئات؟هل نتخلى عن أطفالنا؟”.
بعد عدة أسابيع، نفذ صبر جوان، واتخذت قراراً علمت أن لا رجعة منه، أخبرت أطفالها بأنها ذاهبة إلى مدينة دهوك القريبة، للعلاج من الصدمات النفسية، لكنها في الواقع كانت في طريقها إلى دار الأيتام في الموصل.
“لقد كان يوماً فظيعاً عندما غادرت منزلي وأطفالي، لكنني شعرت أنني خنت طفلي الرضيع”.
وتضيف: “أطفالي كبروا ولديهم والدهم، أما آدم، الطفل المسكين، فهو وحيد وليس لديه أحد، ولم أكن قادرة عن التوقف في التفكير به ليلاً نهاراً”.
عندما وصلت جوان إلى دار الأيتام، قيل لها إن آدم مريض ولا يمكن رؤيته. ولكن ومع إصرار الأم، اعترفت سكينة لها بعد يومين أن دار الأيتام وضعت بعض الأطفال على قائمة التبني عن طريق قاض محلي.
وتقول سكينة إنها أخبرت القاضي صراحةً أن آدم وأربعة أطفال آخرين ممن ولدوا من أمهات ناجيات من التنظيم يجب ألا يعرضوا للتبني، لأن أمهاتهم قد يطالبن بهم في يوم ما. ورغم ذلك، مُنح آدم لتتبناه عائلة أخرى.
تصف سكينة حالة جوان عندما علمت بضياع ابنها منها: “لقد بكت جوان بكاءً شديداً، ولم تتوجه إلى منزلها بل اتجهت إلى ملجأ للنساء في شمال البلاد.
وبعد بضعة أشهر من غيابها، طلقها خضر وأرسل لها رسالة مفادها أنها لم يعد بإمكانها رؤية أطفالها الثلاثة الآخرين.
ولم يهدأ خضر الذي كان حزيناً أيضاً وقال: “أعلم أن الذنب ليس ذنب الطفل، إنها مشيئة الله، لو كنت شخصاً سيئاً لتركته يموت في سوريا، لكنني لم أفعل ذلك، وسمحت لزوجتي باصطحابه معها”.
ويتابع: “لكن عندما يأتي قاتل داعشي، ويقتل عائلتك بأكملها ويسبي زوجتك وأطفالك وتلد منه طفلاً، لا يمكننا قبول ذلك، لا أحد يقبل بهذا بغض النظر عن الديانة التي يؤمن بها”.
يشارك ابن جوان الأكبر هيثم، مشاعر والده ، قائلاً “إنه لا يمكنه قبول طفل من داعش كأخ له” ويضيف: ” لقد تركتنا والدتنا من أجله”.
أما الأخ الأصغر، آزاد ، فكان يسأل عن أمه باستمرار عدة أشهر بعد مغادرتها، لكنه توقف الآن.
ويقول هيثم: “أخبرته أن والدتنا لن تعود أبداً، لذلك لا تنتظر”.
أما حواء، الفتاة التي كانت تساعد أمها في رعاية أخيها في الرقة، فكانت أكثر تعاطفاً وتقول: “كان كل شيء على ما يرام عندما كانت والدتنا معنا، أتمنى أن تتمكن والدتي من العودة يوما ما، لكن من حقها أيضاً أن تشتاق لآدم”.
وقول سكينة، مديرة دار الأيتام إن جوان يمكنها سحب آدم من العائلة التي تبنته طالما باستطاعتها إثبات ذلك عن طريق إجراء اختبار الحمض النووي.
وفي الوقت الحالي، تعتقد جوان أن آدم في المكان المناسب له، لكنها تفكر فيه يومياً ولم يتبقَ لها سوى الحلم بلقاء جميع أطفالها قائلةً: “أتمنى يوماً ما، إذا شملني الله برحمته، أن أرى جميع أطفالي مرة أخرى”.
مصدر الصورة: Getty images
للمزيد:
بعد اعلان صلاح.. تزايد أعداد المقبلين على علاج الادمان في مصر