نساء تواجهن لهيب النار والأسعار ومخاطر كوفيد 19
منذ بدء شهر رمضان المبارك، تقف عائشة يوميًا قبيل موعد الإفطار على قارعة الطريق الوطنية التي تربط بين محافظة القيروان ومدن الشمال والجنوب التونسي. مثلها مثل عشرات النساء اللواتي يستفدن من مناسبة الشهر الفضيل للمساهمة في إعالة أسرهن، فيقفن في جنبات الطريق أمام تنور يخبزن فيه
خبز الطابون التقليدي اللذيذ ويبعنه للمارة وزبائن يقصدونهن.
تواجه عائشة لهيب النار والأسعار ومخاطر جائحة فيروس كورونا المستجد في قلب التنور المستعر. تمرّر المرأة الخمسينيّة يديها لتقليب الأقراص على حر الجمر خشية أن يحترق الخبز. وتعيد الكرّة مرة بعد مرة وهي تحذر لسعات اللهب وجدار التنور الذي أصبح قطعة من نار. هذا العمل هو مصدر قوت عائلتها وعائلات أخرى تجابه تداعيات الأزمات الاقتصادية المتتالية، علاوة على تداعيات الجائحة التي هزّت العالم.
يبدأ عمل عائشة في صناعة الخبز منذ شروق الشمس، كما قالت لمراسلة “تطبيق خبّر” الميدانية في تونس سمية حمدي. تتخذ من كوخ متواضع من الخشب المغطّى بخرق من القماش، ما يشبه المأوى والورشة. وقد تمكنت من أخذ موقعها هذا بصعوبة والحصول على موضع بين المتنافسات على قارعة الطريق، المتحديات لقرارات البلدية بإزالة الاكواخ الخشبية. وتلك قضية بيئية أخرى تخوضها النسوة اللواتي اتخذن مواقع خبز وبيع لهن في هذا الطريق.
في شهر رمضان، يشتد إقبال المواطنين على هذا الخبز التقليدي الذي تعده النسوة ويضفن عليه البهارات الشذية والكثير من التعب وألم الاحتراق ورائحة الصبر، وتعطيه نار الحطب لونًا ذهبيّا.
مع تشديد اجراءات الحجر الصحي ومنع التجوال موعد الإفطار، يتسابق طالبوا هذا الخبز لخطفه والعودة سريعًا ليشهدوا موعد الإفطار في منازلهم، بينما تبقى عائشة وغيرها من النسوة تنتظرن من قد يجود به الليل من الزبائن.
كغيرها من الخبازات على قارعة الطريق، تواجه عائشة لهيب النار والأسعار ومخاطر كوفيد 19
أوضحت عائشة لمراسلة
“تطبيق خبّر” أنها داخل الكوخ الخشبي الذي يهتز وقت الرياح ومرور الشاحنات، تقضي ساعات طويلة في التحضير وإعداد العجين بأنواع متعددة لتقدم لزبائنها خبزًآ متنوع المذاق والأشكال. وشرحت أنه بحسب نوع التنور يكون نوع الخبز وفق العادات التونسية، وخصوصًا عادات ريف القيروان.
فهي تصنع خبز الطابونة وخبز الفطائر وخبز الملاوي وهو خبز رقيق العجين، يطبخ في هدوء على نار الحطب فيجعله مستويًا ليّن المذاق. ولهذا السبب يشهد إقبالًا من الشبان والأسر ومستعملي الطريق المسافرين بين الشمال والجنوب عبر هذا الطريق.
مع بزوغ الفجر، تغادر عائشة منزلها مودعة أبناءها وهي تحمل كيس الدقيق وعلب الملح والبهارات والخمائر، بينما تحمل ابنتها العشرينية التي ترافقها قوارير الماء وأوانٍ منزلية تستخدم لإعداد العجين. وتتجهان إلى ذاك الكوخ الذي ستقضيان فيه اليوم بطوله في تلبية طلبات الزبائن.
خبز الطابون التونسي التقليدي
“يبدأ عملي في هذا الكوخ منذ الفجر إلى غروب الشمس ولا أغادره إلا بعد بيع الخبز كله”، قالت عائشة وهي تطرد بيديها المتورمتين عن وجهها غيمة من الدخان الاسود امتزجت بعرق جبينها. أما عن متاعب إعداد الخبز مع ارتفاع الحرارة ومواصلة العمل في شهر رمضان، فهو جزء بسيط من متاعب مصارعة النيران الملتهبة في التنور.
تلسع النيران يديها التي فقدت نعومتها وتركت أثار احتراق، ومع ذلك هي تعتبر نفسها ملزمة بالعمل طوال اليوم لكونها المعيلة الوحيدة للعائلة، خصوصًا أن أبنائها الشبان الأربعة يواجهون البطالة كما تصارع هي لهيب التنور. وفوق هذا، تتحمل عائشة عبء ابنها المتزوج وطفله كما تعيل باقي أبنائها. ويتقاسمون جميعًا ما تجنيه من نانير قليلة هبطت قيمتها الشرائية.
ارتفاع أسعار المواد الأولية يؤثر في رزق عائشة وأسعار خبزها
شرحت عائشة أنه قد ارتفعت أسعار المواد الأولية من الدقيق والخشب الأساسي في عملها، خصوصًا منذ تفشت جائحة كورونا المستجد في تونس وفرض الحجر الصحي الشامل، ما دفعها إلى رفعها ثمن الرغيف بمائة مليم أي بعُشر دينار تونسي واحد، الأمر الذي أثار تذمّر زبائنها.
وكوزيرة مالية في حكومة تواجه تقشفا وأزمة اقتصادية، تفسر عائشة لهم بعض العمليات الحسابية لتقنعهم أنها ما رفعت السعر إلا لأن أسعار موادها الأساسية قد ارتفعت عليها كذلك.
فتشرح لهم، “كان ثمن كيس الدقيق في حدود 15 دينارًا (حوالي 6 دولارات)، أما اليوم فتضاعف ثمنه في وقت وجيز وقفز إلى 30 دينارًا (حوالى 12 دولارًا)، فضلًا عن ندرته خلال الحجر الصحي، ما يضطرني وغيري من النسوة إلى البحث عنه في السوق السوداء وبأسعار مضاعفة للحفاظ على مورد رزق أسرنا”.
وأضافت عائشة أن “الزبائن يتفهمون أحيانًا ظروف عملنا وارتفاع الاسعار والمتاعب التي نواجهها ومخاطر الطريق، فيما يحتجّ البعض الآخر على سعر الرغيف الذي ارتفع قليلًا، وهو لا يستطيع تحمّل ثوانٍ من الوقوف قبالة التنور، بينما أقضي أنا ساعات طويلة يوميًا في جواره، علاوة عن تضاعف أسعار المواد الأولية من دقيق وزيت زيتون وحطب”.
ارتفاع أسعار المواد الأولية يؤثر في رزق عائشة وأسعار خبزها
تجني عائشة من عملها المضني طوال اليوم ما بين 10 و15 دينارًا، أي أقل من 6 دولارات في اليوم، وهذه الأجرة أو الدخل اليومي لا يكفيها لتوفير حاجياتها الغذائية وحاجيات أسرتها الوافرة العدد من المواد الأساسية.
وعبرت عن استيائها من ارتفاع الأسعار فقد “ارتفع سعر المواد الغذائية واللحوم بشكل جنوني ولم نعد قادرين على توفير احتياجات العائلة من الغذاء خصوصًا من اللحوم الحمراء”.
وأكدت أن الأزمة الاقتصادية أثرت بشكل كبير على دخلها، كما فاقمت بطالة أبنائها، فدخلها اليومي تراجع في ظل إقرار الحجر الصحي، ولم يعد بإمكانها مواصلة العمل إلى ما بعد السابعة مساء، بعد أن كانت في السابق تبقى متأخرة في الليل لتبيع الخبز والسندوتشات للمسافرين.
هذا الوضع الصحي الذي أثر على عملها وإقبال زبائنها، لم يكن هو أكثر ما يقلق عائشة وكثير من النسوة اللاتي أهملن مظهرهن الخارجي، كما أهملن شروط الوقاية الصحية، إذ بدل وضع كمامات واقية، تستعمل عائشة جزءًا من غطاء رأسها على أمل وقاية نفسها من عدوى كوفيد 19 بسبب عدم قدرتها على شراء الكمامات الطبية.
ختمت عائشة حديثها معنا قائلة إن الدخان والحرارة والإرهاق وجوع أبنائها، هو أكبر خطر يتهددها ويتهدد مستقبل حياتها وحياة أسرتها، لأن الفقر هو الآفة الأشد فتكًا وإيلامًا، وهو ما تسعى في محاربته.