فتاة المنصورة.. هل وقعت ضحية “تأثير المتفرج”؟
في وضح النهار، وأمام أعين جمع غفير من الناس، ارتكب شاب مصري جريمة قتل بشعة أدمت القلوب. الضحية الطالبة نيرة أشرف ذبُحِت ظهر الإثنين، 20 يونيو/حزيران 2022، أمام جامعة المنصورة بدلتا مصر، على يد زميلها بسلاح أبيض.
بعدها بـ48 ساعة، صُدم رواد مواقع التواصل بفيديو يوقف مأساة جديدة لا تقل بشاعة عن الأولى، حينما أقدم شاب على قتل آخر بالساطور أمام المارة بالشارع بمدينة دار السلام المكتظة بالسكان جنوب العاصمة المصرية القاهرة.
حادثة ثالثة مشابهة، وقعت في نوفمبر 2021، حينما أقدم شاب على قتل رجل ثم فصل رأسه عن جسده في وضح النهار، في جريمة قتل مروعة بمدينة الإسماعيلية المصرية.
الغريب في الأمر أن الجرائم الـ3، وقعت أمام جمع من الناس، بينهم من أخرج هاتفه ليوثّق اللحظات الأخيرة في عُمر الضحية، دون أن يحرك ساكنًا. فهل من قاسم مُشترك وراء عدم التحرك لإنقاذ الضحية بدلا من تصويرها؟
الإجابة جاءت من علماء النفس، الذين وصّفوا هذه الحالة تحت اسم “تأثير المتفرج” أو “لامبالاة المتفرج” (Bystander Effect)، وهي ببساطة ظاهرة نفسية اجتماعية تُشير لامتناع الشخص عن تقديم أي مساعدة للضحية إذا كان هناك حاضرون آخرون؛ إذ يرتبط احتمال تقديم المساعدة عكسيًا مع عدد المتفرجين، أي أنه كلما زاد عدد المتفرجين، كلما انخفضت نسبة أن يُقدّم أحدهم المساعدة والعكس صحيح.
سوزان كراوس وايتبورن، أستاذة علم النفس والدماغ بجامعة ماساتشوستس في أمهرست بالولايات المتحدة، وضعت تشبيها دقيقا لهذه الظاهرة، التي وصفتها بـ”طبقة الزيت”، التي تُصبح أرق كلما كبرت المساحة التي تغطيها، لذلك يضعف إحساسنا بالمسؤولية وسط مجموعة كبيرة من الناس.
أصل الحكاية
بالعودة لأصل الحكاية، فإن ظاهرة “تأثير المتفرج” لا يرتبط بمكان أو شعب بعينه، فقد وُصفت لأول مرة في أعقاب قضية شهيرة وقعت تفاصيلها في عام 1964 بالولايات المتحدة. وسلّط مقال نُشر في أعقاب الواقعة، بالصفحة الأولى لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية الضوء على الجريمة المروعة التي راح ضحيتها “كيتي جينوفيز” البالغة من العمر 28 عامًا، طعنًا على يد رجل في شوارع نيويورك، على مرأى ومسمع أكثر من 30 شخصًا لم يقدموا يد المساعدة للضحية التي أطلقت صرخات الاستغاثة دون جدوى.
الواقعة الغربية، استرعت اهتمام عالمي النفس الاجتماعي الأمريكيين “بيب لاتاني” و”جون دارلي” للدراسة الدوافع التي ربما ساهمت في فشل المتفرجين بتقديم يد العون والمساعدة أثناء وقوع الجريمة.
وفي كتاب صدر عام 1970، وحمل اسم (The Unresponsive Bystander) لخّص “دارلي” و”لاتان” أن احتمالات إقدام شخص على التصرف بإيجابية في مثل تلك المواقف تكون أقل عندما تنتشر المسؤولية بين عدد من الناس، بمعنى أن الأفراد يكونون أكثر ميلاً للتصرف بإيجابية عندما يشعرون أنهم يتحملون المسؤولية الوحيدة عن القيام بذلك كأن يكون الشخص واقفا بمفرده أثناء وقوع الحادث.
وشرحا أن أي شخص يتصرف بمفرده في مثل تلك الوقائع، وربما في مواقف وغيرها مثل تعرض شخص للإغماء في الشارع مثلاً، يكون لديه سبب وجيه لـ”التطوع” واتخاذ إجراء، لكن إذا كان هناك حشد من الناس حضروا الواقعة، فإن فرصة أحدهم لـ”التطوع” وتقديم يد العون والمساعدة تتضاءل، لإفساح المجال ربما لظهور متطوع آخر، وهو أمر قد لا يحدث في أحيان كثيرة.
وبعد تجارب متوالية، توصل “دارلي” و”لاتان” إلى أن هناك 3 عوامل جوهرية قد تدفع الأشخاص إلى عدم تقديم المساعدة في وجود جمع من الناس وهي: “تأثير انتشار المسؤولية”، ومعناه أن الفرد عندما يكون ضمن مجموعة، يتصوّر عادة أن المسؤولية تقع على عاتق فرد آخر، وأن هذا “الآخر” ربما سيتصرف بدلاً منه، وهذا ربما ما حدث في حادثة “طالبة المنصورة” والفتاة “كيتي جينوفيز”.
أما الدافع الثاني، فهو “قوة المعايير الاجتماعية”، ويعني ذلك أن تصرفات الشخص وتعاطيه مع أحداث كتلك، تتغير بوجود آخرين معه، حيث يترقّب في البداية ردود أفعال الآخرين من حوله ثم يتصرف وفقًا لذلك. وعلى هذا فإن تصرف الآخرون مع الموقف بنوع من اللامبالاة، فإن الشخص يميل لتقييم الموقف على أنه كذلك بالفعل، والدليل على ذلك أن الحاضرون عادة يتبادلون النظرات لفهم ما يحدث، ويترقبون بعناية شديدة ردود فعل من حولهم، قبل القيام بأي خطوة.
في حين أرجعا السبب الثالث للقلق بشأن الخطر الذي يمكن أن يتعرض له المُنقذ، أو خوفه من التشريعات التي ربما تضع في ورطة ما، أو بسبب الإحراج من وجود جمع من الناس، قد يفسرون تدخُّله على أنه عمل غبي ومتهور.
5 مراحل
بالعودة لحادث فتاة المنصورة، فقد كشفت كاميرات المراقبة الموجودة قرب بوابات الجامعة، تفاصيل آخر 30 ثانية في حياتها، حيث وقعت مشادة بين المتهم والمجني عليها فور نزولها من الأوتوبيس، إثر خلافات قديمة بينهما، انتهت إلى إخراج القاتل سلاح أبيض، طعن به الفتاة عدة طعنات متتالية في البطن والظهر سقطت على أثرها غارقة في دمائها وسط صراخ المواطنين، ولم يكتف بذلك، بل نحرها من رقبتها أثناء تجمع عدد من المارة حوله.
ووفق ما رصدته كاميرات المراقبة، فقد تدخل بعض المتواجدين وحاولوا إنقاذها ومساعدتها، لكن بعد فوات الأوان، وبعد أن تعرضت للطعن، وتمكنوا من القبض على المتهم بعد توجيه عدد من الضربات له وطرحه أرضًا، وتسليمه لرجال الشرطة.
وبسؤالهم عن سبب عدم تدخلهم في بداية المشادة، أفاد شهود العيان بأنهم ظنوا أن خلافًا بين المجني عليها والمتهم نشب بسبب علاقة قرابة بينهما أو غير ذلك، لكن بعضهم تدخل فور اعتدائه عليها بالسلاح الأبيض.
وبالعودة لما دونه “دارلي” و”لاتان” في كتابهما، يمكننا إيجاد تفسير منطقي لما حدث، حيث ذكر العالِمان أن الحوادث المشابهة التي تقع بين جمع من الناس تمر بخمسة مراحل حتى تنكسر القاعدة ويحدث التدخل من المارة وهي: يجب أن يلاحظ المارة أن هناك شيئًا ما غريب يحدث، يجب على المارة تحديد هذا الوضع كحالة طارئة، يجب على المارة تقييم مدى شعورهم بالمسؤولية الشخصية، كما يجب أن يقرروا أفضل السبل لتقديم المساعدة، وأخيرا يجب أن يتصرف المارة بناءً على هذا القرار.
هل سأتلقى المساعدة إذا لزم الأمر؟
منذ توصيف ظاهرة “تأثير المتفرج”، فقد انشغل علماء النفس بسؤال جوهري ربما يؤرق الكثيرين وهو: هل إذا تعرّضت لموقف مشابه سأتلقى المساعدة إذا لزم الأمر وما هي فرص حدوث ذلك؟
دراسة مرجعية أجراها عالم النفس الاجتماعي “دانيال ستالدر”، لنتائج مجموعة من الدراسات السابقة في هذا الشأن، ونُشرت في 2008، كشفت أنه على الرغم من أن مصطلح “تأثير المتفرج” حقيقيًا، لكن في المقابل، برزت بعض الحالات المغايرة، عندما لم يقف المتفرجون في الواقع مكتوفي الأيدي، بل ساعدوا الضحية في الواقع.
حدث ذلك في بعض الحالات، عندما كانت المجموعات التي تراقب الواقعة أصدقاء، إذ كان من المرجح أن يساعدوا أكثر مما كانوا عليه عندما يكون أعضاء المجموعة غرباء.
هناك نقطة أخرى تم رصدها أيضًا، وهي أنه كلما زاد عدد المجموعة التي تراقب الواقعة، زاد احتمال قيام شخص واحد على الأقل في المجموعة بتدخل مؤيد للمجتمع.
وأيّد هذا الطرح، عالم النفس ريتشارد فيلبوت في دراسة منهجية وصفها بأنها الأكبر، فيما يتعلق بإمكانية تدخل المارة الواقعي في النزاعات العامة الفعلية التي تلتقطها كاميرات المراقبة في الشوارع.
الدراسة المنشورة في 2019، اعتمدت في تحليلها المنهجي على مجموعة لقطات فيديو فريدة، التقطتها كاميرات المراقبة لوقائع متفرقة حدثت في 3 دول مختلفة هي: المملكة المتحدة وهولندا وجنوب أفريقيا.
وتوصلت النتائج إلى أن أنه 9 من أصل 10 نزاعات عامة حدثت على مرأى ومسمع من المارة، تدخل ما لا يقل عن شخص واحد من شهود الواقعة، بمتوسط 3.8 شاهد يتدخلون في كل نزاع، شريطة أن يكون شهود العيان جمع كبير من الناس.
نصائح للتصرف بإيجابية
وبما أن لكل قاعدة شواذ، تشير سوزان كراوس وايتبورن أيضا إلى أنه يمكننا أن نتصرف بإيجابية ونكسر القاعدة. ففي دراسة كبيرة على أطفال المدارس في الصفوف من الثالث إلى الخامس، كان الأطفال المعرضون للخطر أقل عرضة للوقوع ضحية للتنمر عندما دافع الأطفال الآخرون عنهم. فالطفل القادر على الدفاع عن طفل يتعرض للتنمر قد يكون لديه قدرات خاصة على التعاطف. يمكن للوالدين والمعلمين أيضًا إنشاء بيئات داعمة لتشجيع الأطفال على دعم الأطفال الآخرين.
ولمن يريد أن يكون أكثر إيجابية في مثل هذه المواقف، قدّمت “وايتبورن” مجموعة من النصائح للتغلب على ظاهرة “تأثير المتفرج” وهي:
– إذا كنت في مشكلة مشابهة، فاختر شخصًا واحدًا من بين الحشد. إن التواصل بالعين مع شخص غريب قد يكون مفيدًا.
– إذا كنت متفرجًا، فاتخذ إجراءً. يجب على شخص ما أن يقف أولاً عندما يكون في موقف متفرج. اجعل هذا الشخص هو أنت.
– استفد من ميولنا الطبيعية نحو الإيثار. افترض الأفضل في الناس وليس الأسوأ. كثير من الناس لديهم رغبة طبيعية في المساعدة وسوف يفعلون ذلك إذا منحتهم الفرصة.
– حاول ألا تقلق بشأن عواقب المساعدة. صحيح أن الأشخاص الذين يتدخلون في حالة الطوارئ قد يعرضون أنفسهم للخطر، لكن الأفضل ألا تقضي بقية حياتك في توجيه اللوم لنفسك عما إذا كان تصرفك قد تنقذ شخصًا آخر.
في نهاية حديثها تشير إلى أن الأمر لنا جميعا لتقرير ما إذا كنا سنساعد إخواننا البشر عندما يكونون في حاجة إليها. يمكن أن نكون متفرجين سلبيين أو يمكننا التدخل. داخل كل واحد منا القوة التي يمكن أن تجعله بطلاً.