إضراب قضاة لبنان احتجاجاً على تدني رواتبهم يعلّق مصير موقوفين
منذ أشهر، يقبع سائق سيارة الأجرة يوسف ضاهر في السجن من دون توجيه أي اتهامات له، جراء إضراب مفتوح ينفّذه القضاة منذ الصيف احتجاجاً على تدهور قيمة رواتبهم على وقع انهيار اقتصادي لم يوفر قطاعاً من تداعياته.
ويشكل إضراب القضاة الذي يساهم في إبقاء قضايا مصيرية وملفات موقوفين معلقة، دليلاً إضافياً على حالة الانهيار الكامل الذي تعيشه المؤسسات العامة في لبنان، حيث بات الحصول على جواز سفر أو إنجاز معاملة في الدوائر العقارية أو في المحاكم يحتاج إلى معجزة.
يومياً، يوجّه ضاهر رسائل من داخل سجنه في مدينة طرابلس (شمال) عبر خدمة واتساب الى محاميه لسؤاله عما إذا أنهى القضاة اعتكافهم، بعدما تقدّم قبل أشهر بطلب لإخلاء سبيله، ما زال البتّ فيه معلقاً.
قبل ثمانية أشهر، أوقفت القوى الأمنية ضاهر، بعدما أقلّ بسيارته متهما بجريمة خطف، من دون علمه كما يقول. وبعد استكمال التحقيقات معه، لم يوجّه له أي اتهام، فتقدم محاميه بطلب لإخلاء سبيله، لكن بدء القضاة إضرابهم حال دون البتّ بالطلب.
ويقول لفرانس برس من داخل السجن: “انقطع مصدر رزق عائلتي التي باتت تعتاش من المساعدات”، لافتاً إلى أن أكثر ما يحزنه هو عدم قدرة زوجته وأطفاله الثلاثة على زيارته في السجن بسبب ارتفاع كلفة النقل.
منذ بدء الانهيار الاقتصادي قبل ثلاث سنوات، تتكرّر إضرابات موظفي القطاع العام الذين تدهورت رواتبهم جراء انهيار قيمة الليرة وخسارتها قرابة 95 في المئة من قيمتها مقابل الدولار. وانضم القضاة إليهم في منتصف آب/أغسطس في إضراب مفتوح ما زال مستمراً رغم حصولهم زيادة في الرواتب وتقديمات.
وقد أقرّ البرلمان في موازنة 2022 في أيلول/سبتمبر زيادة رواتب موظفي القطاع العام بينهم القضاة راتبين على الراتب الأساسي، كما تحسين المساعدات الاستشفائية والتعليمية. إلا أن القرار لم يسر بعد. كما لم ينه القضاة إضرابهم، ليصبح أطول إضراب في تاريخ القضاء في لبنان.
ويترواح حالياً مرتب القاضي من الدرجة الوسطى بين ستة وسبعة ملايين ليرة، أي ما يعادل 160 دولاراً بحسب سعر الصرف في السوق السوداء، كما باتت التقديمات الصحية والمنح التعليمية لأطفال القضاة شبه معدومة جراء تدهور سعر الليرة، وفق ما يقول أحد القضاة في قصر العدل في بيروت، مفضلاً عدم الكشف عن اسمه.
وتساءل القاضي “هل يستطيع القاضي أن يعيش مع عائلته بالحدّ الأدنى مع هكذا راتب؟”، مشدداً على أن” القضاة اختاروا الاعتكاف مكرهين، لأن أوضاعهم المالية والاجتماعية باتت صعبة”، مشيراً إلى أن بعض القضاة ممن يعانون أمراضاً مزمنة “توقفوا حتى عن إجراء الفحوصات الدورية اللازمة، وشراء الأدوية الفعالة للعلاج”.
“الظلم يطال الجميع”
لا يحتجّ القضاة على تدهور رواتبهم، بل أيضاً على سوء الخدمات في قصور العدل. ويروي عدد منهم لوكالة فرانس برس كيف أنهم باتوا يضطرون أنفسهم لشراء الأقلام والأوراق، عدا عن الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي ولإمدادات المياه في المراحيض وغياب الصيانة.
ويقول القاضي في بيروت إن القضاة “يشترون القرطاسية والأقلام والمحابر من حسابهم الشخصي في قصور عدل من دون كهرباء أو مياه أو نظافة”.
وبمعزل عن الأزمة الاقتصادية، تتسبب البيروقراطية داخل النظام القضائي في لبنان أساساً بتأخير البتّ في القضايا المرفوعة وإصدار الأحكام النهائية. وتفيد تقديرات عن وجود قرابة ثمانية آلاف سجين، لم تصدر أحكام بحق غالبيتهم. وفاقم إضراب القضاة الوضع سوءاً.
ويروي مصدر قضائي ثان في قصر العدل في منطقة بعبدا، قرب بيروت، كيف أن “13 سجينا أنهوا محكوميتهم منذ شهرين ونصف الشهر، ويفترض أن يكونوا غادروا السجن لكنهم ما زالوا قابعين فيه بسبب عدم التئام هيئات محاكم الجنايات لتقرر ادغام الأحكام الصادرة بحقهم حتى يصدر قرار الى آمر السجن بالافراج عنهم”.
قبل شهرين، أوقفت القوى الأمنية شاباً سورياً بتهمة الترويج للمخدرات، لكنه لم يخضع لغاية الآن لأي تحقيق قضائي بسبب توقف النيابة العامة عن العمل، وفق ما تقول محاميته جوسلين الراعي لفرانس برس، مشيرة إلى أنه لم تصدر حتى مذكرة توقيف بحقه.
ويوضح مسؤول أمني لفرانس برس “كان يغادر شهرياً حوالى 350 شخصاً بين موقوف بإخلاءات سبيل أو محكوم انتهت مدة محكوميتهم، أما الآن فيغادر السجون حوالى 25 شخصاً شهرياً” فقط، موضحاً أن غالبية هؤلاء يخرجون بعد “تدخل وسطاء لدى قضاة للبت في ملفاتهم”.
ويضيف “فاقم ذلك أزمة السجون واكتظاظها، وضاعف الأعباء على إداراتها”، مشيراً إلى رصد زيادة كبيرة في عمليات الفرار.
ويقول أحد القضاة، فضّل عدم الكشف عن اسمه لفرانس برس: “من حقّ القاضي أن يحصل على حياة كريمة، لكنّ الظلم بات أيضاً يطال جميع الموقوفين حتى الملاحقين بجرم سرقة ربطة خبز”.