تونس عاجزة عن سداد ديونها والتضخم يفوق لأول مرة سقف الـ 13٪
تمر تونس بمرحلة حرجة حرجة بسبب المصاعب الاقتصادية والمشكلات المالية خصوصا بعد إعلان الوكالة الدولية للترقيم موديز تخفيض الترقيم السيادي للدولة للمرة العاشرة على التوالي، لكن هذه المرة تختلف عن المرات السابقة حيث شمل التخفيض أيضا المؤسسات المالية الرئيسية بما في ذلك البنك المركزي إلى جانب أهم أربع بنوك تجارية بالبلاد إلى درجة متدنية جدا في السلّم المعتمد لتصنيف الدول وهي (س أأ 2) مع آفاق سلبية.
ويعتبر هذا التخفيض بمثابة تحذير للأطراف الدائنة لتونس وللأسواق المالية الدولية والمؤسسات المالية والمستثمرين عموما بأن البلاد مرشحة للتعثر في تسديد ديونها باعتبارها أصبحت “بلدا ذا مخاطر عالية جدا” مع آفاق سلبية.
فيما تكاد سبل الإنقاذ وتفادي الكارثة أن تكون منعدمة وأبواب الخروج من المأزق مسدودة بعدما تخلى صندوق النقد الدولي عن الطلب التونسي لتوقيع الاتفاق الذي كان من المفترض إبرامه يوم 19 ديسمبر الماضي.
هل تعيش تونس وضع إفلاس غير معلن؟
أزمة تونس مركبة تختلط بين المالي بالسياسي والاجتماعي وبات الانهيار المالي للدولة الاحتمال الأبرز في ظل عجزها عن الخروج إلى الأسواق المالية الثنائية والمؤسساتية، وفي ظل الفشل الذي بات مؤكدا بعد صدور قانون المالية لسنة 2023 في إقناع صندوق النقد الدولي بحزمة الإصلاحات التي تفرّدت بإقرارها حكومة الرئيس.
تظافر الأزمة المالية مع الأزمة الاقتصادية مع الأزمة السياسية وهو ما ينذر بصعوبات على مختلف المستويات يجعل من تونس بلدا في وضع حرج للغاية وغير قادر على الصمود في ظل التجاذبات السياسية وانسداد الحوار بين الفرقاء.
ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق وهو ما جعل معدل التضخم يفوق لأول مرة سقف الـ 13٪ كمعدل عام لكل أصناف المواد في حين بلغ 39،8٪ للمواد الغذائية.
وبات التونسيون يعانون ليس فقط من ارتفاع الأسعار بل من اختفاء عديد المواد الأساسية من الأسواق وفي مقدمتها الزيت والسكر والأرز والدقيق والحليب، إلى جانب الماء المعدني والمشروبات الغازية والحلويات الصناعية، والدواجن، فضلا عن فقدان أغلب المواد التي تحظى بدعم الدولة، فيما ارتفع إجمالي الزيادات هذا العام في سعر الوقود إلى حوالي 20%.
ومن الأسباب الأخرى التي تكشف عجز الدولة هو الاعتماد المفرط على الجباية وتوسع ملحوظ في النفقات حيث بلغت نسبة الموارد الجبائية لهذا العام 87٪ من إجمالي الميزانية وهي نسبة عالية جدا وغير مسبوقة في تاريخ المالية العمومية بالبلاد.
ويعود هذا الارتفاع إلى إقرار حزمة من الضرائب الجديدة على الافراد والمؤسسات من أهمها إحداث ضريبة على الثروة والترفيع في ضريبة القيمة المضافة من 13% إلى 19% لبعض المهن الحرّة، مما جعل من معدل الضغط الجبائي يصل الى مستوى عال بلغ 25،1٪ وهو الأعلى عربيا وافريقيا إلى جانب تقلص نفقات الدعم بنسبة 25٪ للمحروقات و 30٪ للمواد الأساسية دون رؤية شاملة للمعالجة. كما تقلص الاحتياطي من العملة الصعبة ليصل مستوى 96 يوم فقط.
تفاقم المديونية في تونس
ارتفاع نسبة المديونية بشقيها الداخلي والخارجي لتبلغ مستوى لم تصل إليه البلاد من قبل قياسا بالناتج الإجمالي ما بين 90٪ و100٪ حسب مختلف التقديرات، وأصبحت البلاد بحاجة ماسة إلى تعبئة موارد اقتراض بقيمة 24.5 مليار دينار 66.2 % منها مرتبطة بالاقتراض الخارجي.
واستفحل العجز في ميزانية الدولة ليقترب من مستوى 10٪ (8.5٪ في أدنى التقديرات)، كما تفاقم العجز التجاري بشكل قياسي وتاريخي بلغ 25.2 مليار دينار (8.18 مليار دولار) مقابل 16.2 مليار دينار (5.22 مليار دولار) في عام 2021 بزيادة قدرها ثلاثة مليارات دولار، من جراء الارتفاع الحاد للواردات، وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
تحول موقف البنك المركزي من دور المرافق للسياسة المالية التي تضعها الحكومة إلى دور المحذّر والمنبّه من مغبة تعاظم المخاطر الاقتصادية والمالية الكلية ذات العلاقة بمزيد الاعتماد على التمويل الداخلي من خلال الاستنزاف المستمر للسيولة.
ومن أجل وقف هبوط قيمة العملة وسحوبات الأموال، تلجأ الحكومة المتعثرة في سداد الديون إلى إغلاق بعض البنوك وفرض قيود على حركة رؤوس الأموال. ومن التداعيات الداخلية كذلك عجز الدولة عن دفع أجور الموظفين وسداد تكاليف الشحن للسلع المستوردة من الخارج الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على المواطن، مما يؤدي لارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض دخل الفرد بشكل كبير، وقد يصل الوضع إلى حدوث مجاعة في البلاد.
أما على الصعيد الخارجي تنعكس تلك الرجة على مستوى الأسواق المالية الدولية التي تلجأ بالضرورة إلى فرض إجراءات سريعة للتخلص من سندات الدولة المفلسة التي تشهد انهيارا في قيمتها، في انتظار ما ستسفر عنه المفاوضات بين الدولة المفلسة والجهات الدائنة إلى حين التوصل إلى إعادة جدولة الديون بشروط عادة ما تكون مكلفة على الدولة التي تبحث عن سبل للإنقاذ بأي ثمن كان. ومن التداعيات الخارجية أيضا ونتيجة للتعثر في السداد تصدر وكالات التصنيف الائتماني تحذيرات بشأن الاستثمار في الدولة المفلسة مما يزيد من صعوبة الاقتراض من جديد.
ويعود فشل الحكومة في الحصول على موافقة الصندوق الدولي إلى سببين: أولهما عجز قانون المالية لسنة 2023 عن تحقيق الإصلاحات المنشودة على المستوى الجبائي وعلى مستوى تعديل منظومة دعم الأسعار وإصلاحها، وثانيهما عجز القانون المذكور عن تحقيق التوازن المالي المطلوب.
ويغيب عن قانون المالية لسنة 2023 أي توجّه اقتصادي دافع للاستثمار إذ جاء بوصفه قانون “مجبى” يحاول تعبئة المزيد من الموارد الجبائية، بقطع النظر عن أثرها الاقتصادي المدمّر.
في هذا السياق، تكفي الإشارة إلى الضريبة الجديدة المسلّطة على تصدير المنتجات المنجمية مثل تصدير الرمل الذي ضُربت عليه أتاوة تصل إلى ضعفين ونصف ثمن قيمته في السوق، أو تصدير الرخام الذي ضُربت عليه أتاوة تصل إلى ضعف ثمنه. وقد كانت ردّة فعل المستثمرين في هذه المجالات الغلق الفوري لمصانعهم ما رفع نسبة البطالة وتأزّم الوضع الاجتماعي.
وتراجع تقديرات ميزانية دعم أسعار المنتجات الأساسية والمحروقات إلى أكثر من النصف بين سنتَي2021 و2023، حيث كانت تناهز 6 آلاف مليون دينار في سنة 2021 وقُدّرت بما يقارب 2.5 ألف مليون دينار في سنة 2023. كما أنّ ميزانية الدعم قفزت عمليًّا من 3 آلاف مليون دينار إلى 8 آلاف مليون دينار، على الرغم من لجوء الحكومة إلى تعديل أسعار المحروقات بالزيادة فيها خمس مرات متتالية في سنة 2022.
فشل اللجوء إلى التداين الخارجي
ليس أمام الحكومة إلا تفعيل اللجوء إلى التداين الخارجي للخروج من مأزق سنة 2023، والتي تتسّم بتزاحم مواعيد استرجاع أصول بعض الديون الخارجية التي جرت الاستفادة منها سابقًا، من دون الحديث عن الفوائض. فإذا كان متاحًا أمام الحكومة المزيد من تفعيل سياسة سندات الخزينة والتي سجّلت زيادة قدرها 3800 مليون دينار مقارنة بسنة 2021، فإنّ هذا التفعيل سيكون له آثار مدمرة في الاقتصاد الوطني ذلك أنّ الدولة ستستأثر بالسيولة المالية الموجودة من أجل خلاص الرواتب على حساب تمويل الاستثمار، وستساهم أيضًا في زيادة نسب التضخم، والتي ستبلغ أوّل مرّة منذ عقود 11 في المئة سنة 2023، كما توقع البنك المركزي التونسي في بيانه الذي أصدره للعموم بتاريخ 31 ديسمبر 2023.