قد يُفهم من العنوان أن المطلوب هو العودة إلى كتب التاريخ التي تدرس في مدارسنا وليس ذلك ما قصدته , كما لم أقصد من ذلك كتب التاريخ التي في المكتبات ودور النشر لأن الشك يغلفها جميعا ً من حيث يدور السؤال : ما هو المصدر ؟ من هو المؤلف ؟ كيف استقى معلوماته؟ من الممول ؟ ومن المحتفي بهذا الكتاب أو ذاك ..التاريخ الذي أقصده يقبع في حكاياتنا وأحاديثنا اليومية.. دعوني أقص عليكم هذه الحكاية لأقترب مما قصدت.
قبل دخول الجامعة لم يكن لدي معرفة بأكثر من محيط المدينة المحيطة بقريتي .. إلا عبر التلفاز وما يقدمه من برامج ومسلسلات , لم تأتي على ذكر محافظة السويداء ولا مرة (على الأقل لم يصادف ذلك في حياتي) إلى أن حكمت تلك المصادفة قبل سفري إلى جامعة دمشق بأشهر قليلة, يومها كان فيلما ً تسجيليا عن أعراس السويداء وعادات أهلها وتقاليدهم, كانت النساء تلبسن أثوابهن الطويلة الواسعة كلباس الدراويش الذين يرقصون في المولويات، لكنّهن وضعن على رؤوسهم طرحات بيضاء ناصعة، بعضهن لبسن ما يشبه الطربوش الذي كاد يختفي تحت الحلي وليرات الذهب.. والرجال يلبسون الشراويل السود كتلك في القصص ويضعون طربوشا ً بطريقة خاصة على الراس.. شواربهم بيضاء كثّة كأنها مرسومة في لوحة. والمعلق يخبرني (نعم كان يخبرني) بأنهم أي أهل السويداء بأزيائهم وتقاليدهم لا يشبهوننا.
لم يذكر في ذلك الفيلم عن السويداء وأهلها إلا أنهم يأكلون المليحي، ويلبسون تلك الأزياء، وبيوتهم من الحجر الأسود.. هكذا بكل دقة.. وبدون فائض، وأنا المسكينة خلت السويداء تلك بعيدة جداَ والوصول إليها عصي, ولما سألت أمي فاجأتني.. إذ قالت أنهم منتشرون في الجامعة بكثرة وتكاد لا تخلو غرفة في المدينة الجامعية من أحدهم.. وأنهم لشدة ثقافتهم يحتلون بعض الكليات الجامعية بالمئات.
لم أفهم كيف يلبسون هذه الأزياء ويتماهون مع هذا الشعب.. نعم.. لم يمكنني يومها بعد هذا الفيلم الفقير أن أفهم كيف يمكن لشعب ان يجمع التقاليد والعلم معاَ.. كلام أمي لا يشبه كلام المعلق ولا يجتمعان.
واليوم وبعد أن تخرجت من الجامعة، أفهم تماما ً أن الحق علينا جميعا ً إذ لم تقدم مدارسنا عن محافظاتنا غير أنهم اشتهروا بكذا (من الزراعات والنسيج) وكذا (تربية المواشي أو صناعة المربيات) ولم يقصوا علينا قصصا ً عن النسيج الإجتماعي عند الآخر، ليظل هذا الآخر ( الغريب ) غريبا ً نصدق كل ما أمكننا – وأحيانا ً عن قصد – من سماع الروايات حوله حتى لو كانت تشبه قصص الأطفال، أو أن يحدث كما يحدث مع الأشقاء العرب عندما يتعرفون على أهل الشام من خلال مسلسل باب الحارة.
اليوم فهمت أن التاريخ عن السويداء لم أقرأه في كتاب، بل قرأته في وجوههم بعد زياراتي المتكررة لتلك المدينة وقراها.. وتذوقته في المليحي الذي دعيت إليه والتفاح الذي قطفته من الكرم في حبران.. ومن الليلة التي قضيتها تحت ضوء السماء عند سد روم.. والكهوف التي ممرت بها في مسير ٍ مشيناه بين جبال السويداء.. وأصدقائي الذين يملأون أصقاع المكان يحكون بلهجة ٍ محببة تشبه موسيقا أرواحهم.
كانت السويداء مثلاَ.. بأبعادها الإقليمية والطائفية والمناطقية.. ثم تفاجأت أنا ابنة الثمانينات أنني أسمع من خلال نشرات الأخبار ولأول مرة في حياتي عن الإيزيديين.. وأكتشف على غفلة ٍ أنني سمعت سابقاَ بالكورد، لكنني لم أعرفهم جيداَ.. وأعتقد أن الوقت قد حان.