اخبار الآن – نسرين صادق —
أذكر عندما قرأت وأنا بعمر 13 سنة رواية "الرغيف" الشهيرة لتوفيق يوسف عواد التي توثق مأساة الحرب العالمية الأولى والمجاعة التي ضربت منطقتنا بكيت كثيرا عند بعض المقاطع التي توثق الجوع وألامه الجسدية والنفسية والاجتماعية. أناس يموتون من الجوع وهم يحاولون أكل لحم رجل ميت وأخرون يبيعون أنفسهم للقاتل والشيطان مقابل لقمة لا تسمن ولا تغني من جوع ولكن قد تبقيهم يوماً آخر على قيد الحياة. ومستبد آخر يرمي اللحم لكلابه على مرأى من طفل يستجدي عبر السياج قطعة صغيرة من فتات خبز حتى لو كانت بقايا ما أكله الكلاب، مستمتعا بإذلاله.
في مراهقتنا روت لنا المرحومة جدتي وهي التي شهدت الحرب العالمية الأولى طفلة عن الجراد الذي كان يغطي السماء يأكل الأخضر واليابس وحتى لحم الرضع وهم نيام بغفلة عن أهلهم. روت أنهم كانوا يستيقظون فجراً لأن الجراد يكون نائما فيجرفونه بالرفوش ( رفش) ليضعوه في أكياس كبيرة جدا يأخذونها من الجيش العثماني أنذاك. فلمحاربة الجراد الذي لم يبق ولم يذر، قررت السلطات حينها إعطاء "مجيدية" (الليرة العثمانية) لكل من يسلمها كيساً مليئا بالجراد. وما أدراك ما قيمة المجيدية أنذاك..
عملوا أطفالا وكباراً ونساءً وشيباً لمحاربة الجراد لعلهم يكسبون مجيدية تعطيهم قوت يومهم، ونجا من نجا فيما مات كثيرون جوعا تحت أنظار أغنياء أو ذوي سلطة تمتعوا بإذلال عيون الجوعى والفقراء. فقراء لم تعف أنفسهم عن البحث في روث البقر عن بقايا حشيش لم تطحنه المعدات الأربعة للبقرة كما تروي ”الرغيف“. كم شبيه رغيف الأمس برغيف اليوم مع فارق التقنيات التي يمكن أن تنقل الصورة لكل مكان في المعمورة فيما يقف غالبية الناس متفرجين على عيون تستجدي الحياة بذل.
فعوضا عن وقوف طفل جائع أمام سور مستجدياً بقايا وليمة تحدث على مرأى من عينيه الذليلة، يقف اليوم أمام كاميرا تسجل جوعه وإذلاله للملأ، فيقوم شخص آخر بإرسال صور لأطيب المأكولات وأشهاها عبر كل التقنيات المتاحة لعل الجائع يراها.. كم شبيه أيضا سفربرلك الأمس بقوارب الموت اليوم.. لكن جراد الأمس اختلف عن جراد اليوم. من ينجينا اليوم من جراد بمختلف الألوان والأعراق والإثنيات؟!
جراد لا يأكل الحشائش والمزروعات واللحوم وغيرها، بل يقتات على عقول الناس وأدمغتهم التي فقدت في غالبيتها إنسانيتها، فتتجلى صوراً للّحوم والفواكه والولائم تُستعرض تشفيا وشماتة بأطفال تعدهم كل الأديان واللا أديان من الفئات التي لا تحاسب على ذنب. جراد يأكل أمه ذبحاً. جراد يفجر أهله بالبراميل. جراد يغتصب ويسبي.. جراد يقتل على الهوية والطائفية.. وقائمة تطول لأنواع متعددة من جراد هذه الألفية..
جراد هذه الأيام أكل الإنسانية. ولا عزاء لأحد