أخبار الآن | عمان – الأردن مقال خاص لـ الفرد عصفور
قد تقيم الأيديولوجيا دولة لكنها بالتأكيد لا تستطيع الإبقاء عليها، فالشعوب صبرها ينفذ والحكم الشمولي يحمل في داخله بذور فنائه. ولأن المحاباة والمحسوبية والولاء وليس الكفاءة هي مؤهلات الوصول إلى المناصب فهذه هي وصفة الفساد الذي يأكل في جسم الدولة. في مثل هذه الأوضاع تختفي المحاسبة والمراقبة ويتم تحميل المسؤولية لجهات غير معلومة.
إيران واحدة من تلك الدول التي تحكمها عقلية أيديولوجية الملالي وولاية الفقيه وهي تعاني الكثير في إدارة الدولة. هناك دوما الثنائية في كل شيء: الحرس الثوري والجيش، اللجان الثورية والأمن العام، مجلس صيانة الدستور والبرلمان، المحاكم الثورية والقضاء الرسمي. وكل جهاز يخشى الآخر فأصبحت إدارة الدولة أمرا في غاية الصعوبة وخاضعة لحسابات ومعادلات تعيق الاستقرار وتخلق جوا من الاضطراب وضبابية الرؤية.
ينكشف سوء الإدارة في حال الأزمات فيؤدي إلى قرارات متضاربة تقود إلى ظروف يصعب تداركها تضطر معها الدولة إلى دفع الثمن الغالي ولكن بعد فوات الأوان. وسوء الإدارة يخلق ظروفا طاردة للكفاءات. على سبيل المثال تشير إحصاءات صندوق النقد الدولي إلى أن مئة وخمسين ألفا من أصحاب العقول يهاجرون من إيران سنويا مما يجعلها على رأس قائمة الدول التي تفقد نخبتها المتعلمة.
بعد قيام الولايات المتحدة بقتل قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في بغداد قصفت إيران بصورة عشوائية مواقع أميركية في العراق. وأسقطت طائرة أوكرانية مدنية أقلعت لتوها من مطار طهران. فوضى القرارات وتضاربها أدى إلى هذه الكارثة كما أن الأميركيين في قواعدهم علموا بالضربة مسبقا فاختبأوا في الملاجىء وتحاشوا الخسائر المميتة.
جاء التعامل مع إسقاط الطائرة الأوكرانية مرتبكا وتضاربت الروايات الرسمية بشأنها. ولم تكشف الحكومة الإيرانية الحقيقة إلا بعد أن كشفتها جهات أجنبيه فاعترف الحرس الثوري في عذر هو أقبح من الذنب بأن صواريخه أسقطت الطائرة ظنا بانها صاروخ كروز.
لكن الأزمة التي أساءت إيران وكذلك الصين (وهي أيضا دولة تحكمها الأيديولوجيا) إدارتها في البداية هي فايروس كورونا المميت. عندما وصل الفايروس إلى إيران حاولت السلطات إخفاء أمره مثلما يحدث في كل مرة تقع فيها كارثة أو مصيبة.
ولان الشفافية تكشف هشاشة الحكم الأيديولوجي حاولت الدولتان التعتيم على أخبار الفايروس وانتشاره. رد الفعل الأولي كان متشابها في الدولتين قبل اضطرارهما لكشف الحقيقة بعد ارتفاع أعداد الإصابات ووقوع وفيات. وعندما حذر الأطباء عبر وسائل التواصل الاجتماعي من خطر انتشار المرض اضطروا تحت الضغط للتراجع والسكوت وتعرضوا (في الصين مثلا) للاعتقال بتهمة نشر الأكاذيب.
محاولات إخفاء المرض فشلت مع تسارع انتشاره وزيادة الوفيات. لم تكشف السلطات الإيرانية الأعداد الحقيقية أو الأقرب إلى الحقيقية للوفيات جراء كورونا إلا بعد أن كشف نائب إيراني أن عدد الوفيات في مدينة قم تجاوز الخمسين وهو أربعة أضعاف الرقم الذي أعلنته الحكومة. ومع أن مدينة قم هي مركز انتشار فايروس كورونا إلا أن السلطات لم تعزل المدينة لحماية السكان. فحياة السكان هي آخر ما يمكن أن تهتم به حكومة الحكم الشمولي التي همها الوحيد البقاء في السلطة، ولهذا جاءت استجابة الحكومة الإيرانية وقبلها الحكومة الصينية لانتشار الفايروس بهذه الطريقة الواهية.
أحداث كبرى يتم إخفاؤها حيث تسيطر الدولة على وسائل الإعلام والاتصال. وإذا كان الأمر يمر بسهولة في الماضي فانه اليوم ليس كذلك.
عندما قمعت أجهزة الأمن الصينية التظاهرات الشعبية في (تيان آن مين) عام تسعة وثمانين أو عندما وقعت كارثة تشيرنوبل عام ستة وثمانين وهي أسوأ انفجار نووي في التاريخ كان يسهل على السلطات إخفاء الحقيقة مؤقتا. أما اليوم فالأمر لا يصمد في الخفاء حتى ينتشر بسرعة البرق عبر شبكة التواصل الاجتماعي التي لم يعد يمكن معها إخفاء أي شيء.
في حادث انفجار مفاعل تشيرنوبل حاولت القيادة السوفياتية إخفاء الحقيقة واستمر التعتيم مدة يومين ومع ذلك لم يستغرق الخبر عن الحادث في نشرة الأخبار الرئيسية في التلفزيون الرسمي أكثر من عشرين ثانية. وحاول الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشوف باعترافه فيما بعد أن يقنع العالم والشعب أن الانفجار بسيط لا يحتاج إجراءات كبيرة.
نص الخبر الرسمي بشأن تشيرنوبل كان باهتا وكأنه يتحدث عن حادث انقلاب دراجة هوائية. لكن الإعلام السوفياتي ما لبث أن غير طريقة معالجته للخبر بعد انتشاره وكشف كل شيء. بانتهاء التحقيقات تبين أن الأخطاء البشرية وعدم الالتزام بمعايير السلامة كانت وراء الحادث الذي قتل أربعة آلاف شخص. هذه الأخطاء وتلك المعايير الضعيفة تسود في ظل أنظمة قمعية متشددة شمولية لا تراعي الكفاءة المهنية بقدر ما تراعي الولاء الحزبي والعقائدي الأيديولوجي. هذا ما يسود في إيران والصين والاتحاد السوفياتي السابق ودول المنظومة الشيوعية والدول ذات الحزب الواحد المتحكم في كل شؤون الدولة.
في مقالة مطولة في الذكرى العشرين لكارثة تشيرنوبل نشرتها العديد من الصحف العالمية كشف غورباتشوف حقيقة تعامل القيادة السوفياتية مع الحادث واعترف بنقص المعلومات.
لكن الاعتراف الأخطر الذي ورد في مقالة غورباتشوف هو قوله إن الكارثة في المفاعل النووي كانت نتيجة نظام مشوه ومشتت لم يعد بمقدوره الاستمرار. وان الكارثة وتداعياتها كانت ثمرة نظام بُني على الأكاذيب والمحسوبية والأيديولوجية الشمولية التي تضع نفسها على الدوام في موضع أهم بكثير من حياة الناس.
والكشف الأكثر خطورة في مقالة غورباتشوف كان قوله إن كارثة تشيرنوبل وليس البيروسترويكا هي السبب وراء انهيار الاتحاد السوفياتي وقد كانت نقطة التحول الرئيسية بين ما قبلها وما بعدها.
كانت التغطية على الحدث معيبة للقيادة السوفياتية ومحرجة لها أدت إلى سقوط النظام. في الصين الآن أصوات جريئة تنتقد التعامل الرسمي الصيني مع فيروس كورونا. وبدأت أصوات تتحدث عن ضرورة إنهاء حكم الحزب الواحد والتخلص من أيديولوجيته.
في إيران أيضا بدأت بعض الأصوات ولو بخجل تتحدث عن سوء إدارة أزمة كورونا في البلاد. وإذا كان تشيرنوبل بحجم كارثته الكبرى قد أسقط الاتحاد السوفياتي الذي كان دولة نووية عظمى فان كورونا وقد يسقط عشرات الألوف من الضحايا قد يسقط إمبراطورية الحزب الواحد في الصين وقد يسقط أيضا حكم الملالي وولاية الفقيه في إيران.
مقالات أخرى للكاتب: