أخبار الآن | مقال رأي
في دراسة مهمة نشرت في الفورن أفيرز بعددها الأخير يشير الأقتصادي الشهير برانكو ميلانوفچ وبناء على دراسة مؤشرات الدخل في أكثر من 130 دولة الى إستمرار إتجاه لاحظه هو وزميله لاكنر في العقد الماضي،وامتداده للعقد الحالي أيضاً، وهو:
- إستمرار ردم الفجوة بين الطبقة الوسطى في الغرب ومثيلتها في الشرق حيث باتت هذه الفجوة تتقلص منذ 2008 نتيجة عوائد العولمة التي صبت في مصلحة الأخيرة.ففي الوقت الذي لم يزد فيه مستوى دخل الطبقة الوسطى في أمريكا عن 4% خلال السنوات الخمس2008-2013، زاد دخل الطبقة الوسطى في الصين وڤيتنام بحوالي 100% ،وتايلند 85%خلال نفس المدة!
- إستمرار الفجوة في الدخل بين الطبقة الوسطى في الدول الغربية والطبقة العليا فيها على الرغم من عدم زيادتها بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
ويعتقد الكاتب(محقاً)أن كلا الإتجاهين يشيران الى تآكل ملموس في حجم الطبقة الوسطى في الغرب. وهناك أكثر من رقم يدعم حقيقة أن الطبقة الوسطى في الغرب لم تعد كما كانت عليه في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
من جانب آخر فأن كل الدلائل تشير الى أنتشار ظاهرة الشعبوية في كل العالم(ومنه العراق) فضلا عن أنتشارها في العالم الغربي. ففي مقال لها في30 ديسمبر 2019 على موقع كوارتز أحصت آناليزا ميربلي المتخصصة في الجغرافية السياسية20 دولة في العالم باتت محكومة بحركات شعبوية خلال السنوات القليلة الماضية في حين هناك 13دولة أخرى(من بينها العراق)بات الشعبويون يلعبون فيها دوراً محورياً في صنع السياسة!
وفي الوقت الذي سأكرس فيه دراسة خاصة عن تآكل الطبقة الوسطى في العراق، فسأركز هنا على هذا الاتآكل الملحوظ بالطبقة الوسطى في الغرب. ففي الوقت الذي زاد فيه دخل الطبقة الوسطى في أمريكا 4% خلال 5 سنوات لغاية 2013 فأن معدل التضخم هناك خلال نفس المدة كان ضعف ذلك. بالتالي فقد كان هناك تآكل واضح(وليس نمو) في الدخل الحقيقي للطبقة الوسطى. نفس الشيء حصل في كثير من دول الغرب الأخرى والتي شهدت تآكلاً في معدلات النمو التي أعتادتها لوقت قريب! لقد أدى ذلك ببعض الباحثين الى القول ان الطبقة الوسطى تعاني من ورطة كبرى.
أن التآكل الواضح للطبقة الوسطى لا يمكن أن يحصل دون عواقب سلبية على الأقتصاد والسياسة بل والمجتمع.وفضلا عن دور الطبقة الوسطى في تحريك الأقتصاد وعجلة النمو والأبداع،فأن للطبقة الوسطى دوراً أساسياً في تحقيق الإستقرار والأمن المجتمعي. فهي بحق صمام أمان المجتمع والضامن للحراك والانتقال السلس بين الطبقات. من هنا نفهم الدور الذي لعبه تآكل الطبقة الوسطى في الغرب في صعود الحركات الشعبوية المتطرفة.
فالشعبوية تقوم على مبدأ أساس هو الخوف من الآخر وتقسيم المجتمع الى مجموعات متنافسة وليست متعاونة.أن الخوف الذي يعد واحداً من أهم محركات السلوك الأجتماعي والسياسي يغيب السلوك العقلاني. وبما أن المزيد من أفراد الطبقة الوسطى في الغرب صاروا ينظرون بخوف لمستقبلهم الوظيفي بسبب أنحياز عوائد العولمة نحو الطبقة الوسطى في الشرق كما تظهره الإحصاءات،فقد باتوا أكثر تأييداً للقادة الشعبويين الذين يخاطبون غريزة الخوف هذه ويعدونهم بالحماية من خلال الانكفاء للداخل وإغلاق الحدود بوجه المهاجرين الذين باتوا لا يهددون وظائفهم فحسب بل يهددون أنماطهم الثقافية التي طالما ألفوها.
ولعل البريكست كان مثالاً واضحاً على هذا الشعور المتنامي بين البريطانيين وبخاصة بين الطبقات الأفقر وبين الطبقة الوسطى-الدنيا والمهددة بالسقوط في براثن الطبقة الفقيرة نتيجة فقدانهم لوظائفهم.نفس الحال حصل في الولايات المتحدة وأدى لصعود ترامب غير المتوقع من الكثيرين.
أن أخطر ما في الموضوع ،هو أن الشعبويين قد يحققون نتائج أقتصادية أفضل على المدى القصير نتيجة إنسحابهم من العولمة أو محاولة إغلاق الحدود بوجه رياحها(وهذا ما حصل إقتصادياً في الولايات المتحدة خلال السنوات الثلاث السابقة)، وهم في نفس الوقت قد يزيدون من وهم الشعور الزائف بالأمان الإجتماعي والثقافي بين فئة المحافظين في تلك الدول،لكن نتائج السياسات الشعبوية هذه قد تكون كارثية على المدى المتوسط أو البعيد.
فالسياسات الشعبوية تقلل من عوائد الاقتصاد العالمي وبالتالي تقلل مستوى الدخل الكلي مما سينعكس سلباً على مستويات الفقر من جهة والمزيد من تآكل الطبقة الوسطى من جهة أخرى. كما أن الشعبوية تزيد من التوترات الاقتصادية والسياسية بين الدول مما يجعل إحتمالات الحرب أكثر من أي وقت مضى. أما على صعيد السياسات البيئية والصحية فأن آثار السياسات الوطنية الشعبوية تبدو كارثية.
ولعل إنسحاب الولايات المتحدة من إتفاقية المناخ هو دليل واحد فقط على هذا التهديد الجدي للسياسات الشعبوية على المناخ الدولي. كما أن التنافس وعدم التعاون في مكافحة الأوبئة مثل كورونا هو دليل واضح آخر على المشكلات التي يمكن ان تسببها السياسات الشعبوية في التعامل مع الأحداث والكوارث الدولية.
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن