احتجاجات الأهواز.. فصل جديد في جرائم النظام الإيراني
أدت عملية اندلاع الاحتجاجات في إقليم الأهواز جنوب غرب إيران، والتي جاءت نتيجة أزمة الخدمات وشح المياه التي عصفت في الإقليم خلال الفترة الماضية، لتُشير بدورها إلى طبيعة الأزمات التي يعيشها النظام الإيراني.
ورغم التدخلات الجراحية التي اعتمدها النظام، سواءً عبر توجيهات عامة أصدرها المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وزيارات ميدانية قام بها العديد من المسؤولين الإيرانيين ومنهم نائب الرئيس إسحاق جهنغيري، أو عبر استخدام القوة المسلحة المفرطة، إلا إن رقعة الاحتجاجات بدأت تتسع يوماً بعد يوم، ورغم أنها اقتصرت على المدن الأهوازية في البداية، ومنها معشور والفلاحية والخفاجية ومدن أخرى في أسبوعها الأول، بدأت هذه الاحتجاجات تجد صداً لها في الأقاليم المجاورة، وأهمها مناطق الأذريين الأتراك، بل إن العاصمة طهران هي الأخرى أصبحت متناغمة مع الحالة التظاهراتية التي تشهدها الأهواز، لتعيد إلى الذاكرة الاحتجاجات التي انطلقت عام 2018.
ما يجري في الأهواز اليوم هو نتاج سنوات من سوء الإدارة المائية والبيئية، ونتاج لسياسات التهميش التي مارسها النظام ضد هذا الإقليم، الذي تم دمجه قسراً في كيان الدولة الإيرانية، بعد صفقة سياسية تمت بين نظام الشاه وبريطانيا، والتي أطاحت بحكم “خزعل الكعبي” آخر أمراء الأهواز، حيث يمثل الإقليم العامود الأساسي الذي يقوم عليه اقتصاد الدولة الإيرانية، فهو يحتوي على 80% من النفط الإيراني، وحوالي 90% من احتياطيات الغاز الإيرانية، كما يضم أكبر أنهار إيران وهو نهر الكارون، فضلاً عن إن الإقليم يمثل الإطلالة الإيرانية الوحيدة على الخليج العربي، وتكفي الإشارة هنا إلى المقولة الشهيرة التي أطلقها الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، للإشارة إلى أهمية هذا الإقليم بالنسبة للدولة الإيرانية، عندما قال ” إيران با خوزستان زنده إست”، ومعناها إن إيران تحيا بخوزستان أي “الأهواز”.
وفي هذا السياق، ومن أجل إخضاع هذا الإقليم لسيطرة النظام الإيراني، شيدت الدولة الإيرانية العديد من السدود في الأهواز، أبرزها السد العظيم كما يعرف لدى سكان الإقليم، تستخدمه لتخزين المياه، ليس لأغراض زراعية أو بيئية، وإنما كسلاح يمكن استخدامه ضد سكان الإقليم، أو أي قوة مسلحة قد تغزو إيران من الجنوب، وهو ما يؤشر إلى حالة عدم الثقة التي تربط الإقليم بالنظام، ورغم محاولات النظام الإيراني خلق حالة وفاق صورية مع سكان الأهواز، وذلك عبر ترقية بعض الأشخاص من سكان هذا الإقليم لمناصب عليا في البلاد، كما هو الحال مع علي شمخاني أمين سر المجلس الأعلى للأمن القومي، إلا إنه في مقابل ذلك مارس النظام سياسة إقصاء متشددة بحق العديد من السكان والمعارضين الأهوازيين، وقام باغتيال العديد منهم، بالإطار الذي جعل الإقليم بيئة طاردة للنظام وليس حاضنة له.
فالحالة الأهوازية اليوم هي حالة معبرة عن أزمة نظام سياسي لم يعد قادرا على التعايش مع مكوناته، فقبل هذه التظاهرات، دخل النظام في أزمة مع الأذريين الأتراك، عندما دعم أرمينيا ضد أذربيجان في الحرب الأخيرة، ولعل هذا ما يفسر تضامن الأذريين مع احتجاجات الأهوازيين، ورغم أن الأذريين عادةً ما يجدون عمقاً إستراتيجياً يوفر غطاء سياسيا لهم، كما هو الحال مع أذربيجان أو تركيا، إلا إن عرب الأهواز لا زالوا يفتقرون إلى هذا العمق، رغم بيانات التنديد التي صدرت عن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أو حتى الدعم الإعلامي الذي جاء عبر الخارجية الأمريكية، إلا أن هذين الدعمين غير كافيين لإيقاف القوة المفرطة التي يتعامل بها النظام مع احتجاجات الأهواز، والذي دفعت به في الأيام الماضية إلى إرسال قائد الحرس الثوري اللواء حسين سلامي إلى الإقليم، للاطلاع على تطورات الموقف هناك.
تناقضات تكشف زيف الادعاءات
رغم محاولات النظام الإيراني التخفيف من حدة هذه الأزمة، وتقديمها للرأي العام الداخلي والخارجي على أنها حالة تظاهراتية بسيطة وذات مطالب محقة، إلا إن سلوكيات هذا النظام على الأرض تؤشر إلى مدى عمق الازمة التي يعيشها، فرغم التصاعد الكبير الذي تشهده الميزانيات العسكرية، تشهد معدلات التنمية انخفاضاً كبيراً، فالإشكالية لا تتعلق بالموارد، فإيران دولة غنية، لكن المشكلة تكمن في غياب الإدارة الجيدة لهذه الموارد، وضعف منظومة الحوكمة الرشيدة، كما أن حالة التهديد المستمر التي يشعر بها القائمين على هذا النظام، جعلت منهم يقدمون ضرورة الأمن على ضرورة التنمية، والنتيجة أنه في الوقت الذي يؤمن هذا النظام نفسه من أعداء الخارج، خلق في مقابل ذلك مئات الأعداء في الداخل، ولعل الشعارات التي رفعها المتظاهرون في طهران من قبيل “الموت للدكتاتور”، تكشف مدى العداء الذي بدأ يكنه المواطن للنظام والمرشد.
ورغم الحالة الاقتصادية والاجتماعية والصحية المتردية التي تعيشها الأهواز، إلى الدرجة التي دفعت منظمة الصحة العالمية في تقريرها الصادر عام 2011، إلى تصنيف الأهواز كإحدى أكثر المناطق تلوثاً في العالم، هذا إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة فيها إلى ما يقرب من 65%، وتردي مجمل البنى التحتية فيها، إلا إنه إلى جانب كل ما تقدم؛ فإن حالة التهميش السياسي الذي يعيشه الإقليم، جعل منه بؤرة عدم استقرار سياسي مستمر، إذ تكفي الإشارة إلى أنه منذ نجاح ثورة الخميني عام 1979، حكم إقليم الأهواز 19 محافظا، وجميعهم كانوا من القومية غير العربية ومن خارج الأهواز، هذا إلى جانب حالة التفريس التي مارسها النظام ضد سكان الإقليم، ومنعهم من التحدث باللغة العربية في المؤسسات أو الدوائر الموجودة في الإقليم.
إن الاحتجاجات الحالية في الأهواز ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد سبق هذه الاحتجاجات 12 انتفاضة شهدها الإقليم، وهو ما يؤشر إلى أن النظام الإيراني لا يملك إرادة حقيقية في معالجة أزمات هذا الإقليم، كما إنه لا يملك حلول عملية لمعالجة أصلاً، فهو يعمد عادةً لتبني حلول آنية ومرحلية، ما يجعل أسباب هذه الاحتجاجات قائمة، حتى لو تم إخمادها بالقوة المفرطة، كما يجري حالياً، حيث استعان النظام بالعديد من المليشيات المسلحة وتحديداً من العراق ولبنان لإخماد هذه الاحتجاجات، حيث أكدت منظمة العفو الدولية في تقريرها الأخير؛ استخدام الذخيرة الحية في محاولة لقمع الاحتجاجات. وجاء في بيان المنظمة “نشرت قوات الأمن الإيرانية قوة غير مشروعة، بما في ذلك إطلاق الذخيرة الحية لسحق الاحتجاجات السلمية في الأهواز.
إجمالاً يمكن القول؛ إن الأقليات في إيران – بما في ذلك عرب الأهواز – يعانون من التمييز، وذلك بسبب موقعهم الجغرافي، إذ عادةً ما استخدم النظام سلاح المياه، من أجل تغيير التركيبة السكانية في الإقليم، ودفعهم للهجرة نحو المدن الإيرانية الأخرى، وهو ما يتضح من طبيعة الشعارات التي يرفعها المحتجون، والتي تعطي لها بعد هوياتي سياسي بحت، وهذا يشير أيضاً إلى تطلعات أكثر أهمية من حل أزمة المياه.
ومع ذلك، فإن اتساع رقعة الاحتجاجات في عدد من أنحاء البلاد؛ هو مؤشر على مشكلة أعمق تختمر تحت السطح، والتي قد تشكل خطراً على النظام، فهذا الاتساع ناجم عن فقدان الثقة بهذا النظام، وتغذيها الآمال البائسة بمستقبل أفضل، سواء الاقتصادية أو المتعلقة بقضايا البنية التحتية، وتوضح أن النظام الإيراني ليس لديه طريقة لحل هذه القضايا، نظراً لأن هذه القضايا غير قابلة للحل في الوقت الحاضر، لأن النظام يفكر بما هو أهم من هذه القضايا، ويأتي في مقدمة ذلك الحفاظ على نفوذه الإقليمي.