في كل مرة تبدو فيها أن هناك مشكلة ستختفي في إيران، سرعان ما تأخذ مشكلة أخرى مكانها، ففي الوقت الذي انتهت به أزمة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بدأت احتجاجات جديدة في الأحواز، للتعبير عن الامتعاض من سوء إدارة الحكومة لنقص المياه المستمر.

إذ يقول المحتجون أن النظام يواصل بيع المياه الصالحة للشرب لدول أخرى، في حين أن  هناك مئات الأحوازيين الذين تعرضوا للتسمم بسبب مياه الشرب الملوثة، كما بدأت الاضطرابات المتعلقة بقضايا المياه تزداد حدةً في عابادان ومدن إيرانية أخرى، لكن يبدو أن المسؤولين الإيرانيين لا يستطيعون التعامل معها، وتشير الكثير من المعلومات بأن إيران نشرت المزيد من قوات الباسيج في مدن الأحواز لتهدئة الاضطرابات المتصاعدة هناك.

وبموازاة الأوضاع المعقدة في الداخل الإيراني، يعيش الخارج الإيراني أيضاً أوضاعاً لا تقل تعقيداً، خصوصاً في مياه الخليج، التي شهدت الأيام الماضية تصعيداً خطيراً، سواءً على مستوى استهداف السفن أو اختطافها، فضلاً عن تهديد المسؤوليين الإيرانيين بإمكانية غلق مضيق هرمز إذا تطلب الأمر، الا أنه ليس بغريب على المتابع للشأن الإيراني، بأن إيران كثيراً ما تذهب باتجاه إطلاق التصريحات الإعلامية المثيرة للجدل، بل إن السلوك السياسي الإيراني مبني أساساً على اعتماد التهديد، كأساس لاستراتيجية الردع القائمة على الدفاع السلبي، وهنا يبرز تساؤل مركزي، حول ماهية طبيعة القدرات البحرية الإيرانية، وهل إيران قادرة على التأثير في حركة الملاحة البحرية في مضيق هرمز؟

لابد من القول بأن الاستفزازات البحرية التي تقوم بها إيران في المضيق، وخصوصاً من جانب القوات البحرية التابعة للحرس الثوري، باعتبارها تضطلع بالمهمة الرئيسة في منطقة الخليج العربي وخليج عمان، كان لها الكثير من التداعيات الأمنية على المصالح الخليجية والدولية، ولعل هذا يأتي استكمالا لإستراتيجية الحرس الثوري البرية في ساحات الصراع الأخرى في الشرق الأوسط، كونه الأداة الرئيسة في إستراتيجية إيران الإقليمية.

الإستراتيجية البحرية في منطقة الخليج

بالترابط مع إستراتيجية الدفاع غير المتماثل التي يعتمدها الحرس الثوري في إطار الحروب البرية، فقد استطاع أيضاً أن يطبق فرضيات الدفاع غير المتماثل في إطار إستراتيجيته البحرية، فنظراً لمحدودية القدرة الإستراتيجية للبحرية الإيرانية في الخليج العربي وخليج عمان، ذهبت إيران باتجاه تبني إستراتيجية التعرض البحري غير المباشر، وذلك من خلال الدفع بأعداد كبيرة من الزوارق البحرية الصغيرة، والمزودة بصواريخ محمولة على الكتف، وطرادات بحرية من طراز FFLS)) البريطانية الصنع، وغواصات صغيرة من طراز Yono”” المستوردة من كوريا الشمالية مؤخراً، والصواريخ الباليستية المضادة للسفن  (ASBM)، فضلاً عن تطوير أنظمة الدفاع الساحلي”كروز”، وزرع الألغام البحرية، ونصب مفارز بحرية عشوائية، إلى جانب تسخير أسراب من الطائرات بدون طيار، والمجهزة بقنابل متفجرة، من أجل شن هجمات انتحارية على سفن العدو، وكذلك مروحيات بحرية من طراز 3D و AB-212 و RH-53، وطائرات F-27 الثابتة الجناحين، وعدد صغير من الحوامات البحرية، والتي تأتي جميعها من أجل فرض سيطرة غير مركزية على منطقة المضيق، والتي هي بصورة أخرى غير موازية للوجود الأمريكي هناك.

حيث إن إيران قامت بوقت سابق بنقل أغلب سفنها الحربية الكبيرة إلى مناطق بحر قزوين والمحيط الهندي، كونها تدخل في سياق الحروب التقليدية، وهو ما لا يتوائم مع استراتيجية الحرس الثوري التي تعتمد إسراتيجية الدفاع غير المتماثل، القائمة على فرضية “أضرب وأهرب”، بوصفها ركيزة أساسية في التحرك العسكري في البر والبحر، فضلاً عن أن البحرية الخاصة بالحرس الثوري نسجت علاقات قوية في الآونة الأخيرة مع العديد من مجاميع القرصنة البحرية كـحركة الشباب الصومالي في باب المندب، تحت فرضية الجهاد البحري المقدس، من أجل شل حركة النقل البحري وإمدادات الطاقة السعودية والأمريكية والدولية عبر البحر الأحمر.

وفي هذا الإطار، نجد بأن البحرية الإيرانية في الخليج العربي تعتمد على شن عمليات أشبه بعمليات القرصنة البحرية، عند القيام بعمليات تفتيش السفن المارة بالخليج العربي، كما حدث في يوم 3 أغسطس 2021، عندما استولت عناصر من البحرية الإيرانية على ناقلة “أسفالت برينسيس، قبل أن يتم تحريرها فيما بعد، أو ما قامت به أثناء الحرب العراقية الإيرانية فيما عرف آنذاك بـ”حرب الناقلات”، إذ عادةً ما تقوم بمهام التفتيش سفن صغيرة تظهر وتختفي فجأة، بمعنى أننا لسنا أمام قوة بحرية لها من التقاليد الحربية المتعارف عليها.

لذلك يمكن القول بأن إيران لا تمتلك فرصاً كبيرة في إغلاق المضيق لفترة طويلة جداً، بل إن أقصى ما يمكنها القيام به هو عرقلة السفن المارة عبر المضيق لفترة قصيرة، هذا إلى جانب أن إيران لا تمتلك السلطة القانونية الدولية المطلقة على مياه مضيق هرمز، كون جزء كبير منها يتداخل مع المياه الإقليمية لسلطنة عمان، أي أننا أمام مياه دولية وليست إقليمية خاضعة للسيادة البحرية الإيرانية.

لكن تبقى تكتيكات الكر والفر التي يتبعها الحرس الثوري في إطار إستراتيجيته البحرية، يجعله قادراً على مهاجمة سفن الشحن أو الإغارة على المنشآت النفطية بسرعة كبيرة ومن دون سابق إنذار، حيث إن العقوبات العسكرية التي فرضت على إيران منذ بداية القرن الحالي، أجبرت الحرس الثوري على السعي نحو تطوير عقيدة بحرية هجينة.

مواجهة مكلفة إستراتيجياً

تدرك إيران جيداً بأن المواجهة العسكرية في مضيق هرمز، ستُكلفها الكثير من التداعيات البيئية والأمنية والاقتصادية، وبالتالي فهي تعمل جاهدةً على تجنب هذه المواجهة، لأسباب كثيرة أهمها الواقع الاقتصادي الصعب الذي تعيشه اليوم، وعلى الرغم من ان إيران هي الدولة الوحيدة في منطقة الخليج العربي التي تمتلك قوة غواصة بحرية، وهذه القوة نشأت بعد الحرب العراقية الإيرانية، عندما استلمت ثلاث غواصات هجومية من الدرجة الثانية من روسيا، وعلى الرغم من وجود برامج محلية لإنتاج وصيانة هذه الغواصات، إلا أنها تعاني العديد من التحديات، والتأخير في الحصول على التكنولوجيا الحربية المتقدمة، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام على قدرة إيران في التأثير على حركة الملاحة البحرية في مضيق هرمز، إذ ما قورنت قدراتها البحرية بحجم وقدرة الأسطول الأمريكي الخامس.

إلا أن الذي ينبغي الإشارة إليه هنا أنه على الرغم من القدرات العسكرية المتطورة التي تمتلكها البحرية الأمريكية في مياه الخليج العربي، والتي تأتي في مقدمتها كاسحات الألغام والزوارق البحرية والقطع البحرية المقاتلة، إلى جانب الطيران المروحي، إلا إنه بالمقابل يواجه صعوبة في كيفية التعامل مع آلية الزرع العشوائي للألغام البحرية التي يعتمدها الحرس الثوري في مياه الخليج العربي، وهو ما يجعل طريقة التعامل مع هذه الإستراتيجية صعبة بعض الشيء، كما أشار إلى ذلك تقرير صادر عن المكتب الأمريكي للاستخبارات البحرية.

وبناءً على كل ما تقدم يمكن القول؛ بأن مسألة غلق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية، هو موضوع خاضع لطبيعة العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، ومع أن موضوع غلق المضيق أصبح سلاحاً تلوح به إيران منذ ثمانينات القرن الماضي، عندما هدد الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني بغلق المضيق أمام الملاحة الدولية، وهو الشعار نفسه الذي لوح به أحمدي نجاد وصولاً إلى اليوم، إلا أنه لم تقدم إيران حتى اليوم على تنفيذ هذه الخطوة، وذلك للكثير من الأسباب الفنية والاقتصادية والعسكرية، بل إن تداعيات غلق المضيق ستنعكس على الداخل الإيراني أكثر من غيره، خصوصاً وأن النظام السياسي في إيران اليوم يعاني الكثير من الصراعات الداخلية، في ضوء أزمة مشروعية سياسية بدأت تلاحق الولي الفقيه نفسه، ناهيك عن التحديات الاقتصادية المتمثلة بالبطالة والتضخم والفساد الإداري، إلى جانب المشاكل الاجتماعية المتعلقة بالتضييق على الحريات العامة وحقوق الإنسان.