من جديد طالبان تحكم أفغانستان

نداءات اللحظة الأخيرة للرئيس الأفغاني أشرف غني لم تنفعه ولم تحفظه في السلطة واضطرت حكومته لمفاوضة حركة طالبان وتسليم السلطة بعد أن أحكمت الحركة سيطرتها على معظم مناطق البلاد بما فيها المدن الاستراتيجية الرئيسية مثل جلال أباد ومزار شريف وهيرات وقندهار وقندوز. وافقت الحكومة على التفاوض لتجنيب البلاد حربا أهلية وشيكة مع أن مخاطر الحرب الأهلية مازالت قائمة.

باستسلام حكومة كابول وتسليم الحكم وهروب الرئيس تبخرت جهود عشرين عاما من محاولات بناء جيش أفغاني عصري وحكومة أفغانية ديمقراطية ومجتمع ينعم بالسلم الأهلي ويعمل على تنمية البلاد وتعزيز قوتها الاقتصادية والاجتماعية.

كانت خيارات الحكومة الأفغانية محدودة للغاية أمام اندفاعة طالبان. الجيش الأفغاني الذي أنفقت عليه الولايات المتحدة ثلاثة وثمانين مليار دولار انهار في ساعات قليلة أو انه لم يعد يرغب في القتال لحماية حكومة يتهمها بالفساد وعدم القدرة على مسك زمام الأمور في البلاد.

طوال العشرين عاما الماضية قامت حركة طالبان ببعض الأعمال المناوئة للوجود الأمريكي في البلاد ونفذت العديد من العمليات التي جعلت كلفة الوجود الأمريكي عالية. لكنها كانت في الوقت نفسه أيضا تدرب خلايا نائمة وتجهزها لمثل هذا اليوم.

لم تتغير أيديولوجية طالبان لكن الحركة غيرت وطورت استراتيجيتها لتحقيق أهدافها. توصف طالبان بانها حركة إرهابيه متطرفة لا تعرف غير لغة العنف المسلح أسلوبا تتعامل به مع خصومها. ولتنفيذ ذلك تسلحت بترسانة هائلة من الأسلحة والذخائر وبقيت في حالة بيات وهدوء إلى أن حانت ساعة العمل. وعند اكتمال تحقيق هدفها بالاستيلاء على الحكم ستقيم إمارة متشددة تعمل على تصدير نموذجها مثلما حاولت إيران الخميني أن تفعل أوائل ثمانيات القرن الماضي.

كما أن هذه الإمارة ستكون إن أرادت الملاذ الآمن لكثير من الحركات الإرهابية مثل داعش والقاعدة. وستعود البلاد معزولة وموضع شك وارتياب من قبل جوارها الذي لن يأمن لوجود حكم متشدد في كابول. ومع أن دول الجوار ظلت لسنوات وسنوات تطالب الولايات المتحدة بالانسحاب من أفغانستان فإن طلبها ذلك على ما يبدو لم يكن جديا لأنه عندما انسحبت الولايات المتحدة فعلا بدأت تلك الدول تستشعر الخطر الكامن واكتشفت كم كانت متسرعة.

برغم مواقفها العلنية قد تكون إيران الأكثر تأثرا من انسحاب القوات الأمريكية. لأن سيطرة طالبان على الحكم في هذا البلد الأسيوي المغلق سيكون لها تأثيرها السلبي على إيران من حيث أن الصراع القديم بين إيران وطالبان قد يتجدد وكذلك هناك مخاوف إيرانية من اقتراب عناصر داعش من حدودها عبر أفغانستان إذا ما سمحت طالبان لهذه العناصر بالتواجد في أراضيها.

اندفاعة طالبان بهذا الشكل وسيطرتها السريعة على البلاد أحدثت ذعرا بين السكان فنزح الألوف منهم نحو العاصمة وبعضهم نزح نحو إيران التي أقامت مخيمات مؤقتة على الحدود تحسبا من تدفق اللاجئين الأفغان مجددا. في أفغانستان فزع واستنكار ونزوح كثيف من المناطق التي تسيطر عليها طالبان ولكن إلى أين يفرون. فالحركة استولت على كل أفغانستان بما فيها العاصمة.

ما يحدث في أفغانستان الآن لن يكون نزهة لاي طرف من الأطراف. فاضطراب الأوضاع الداخلية وتطورها إلى حرب أهلية لن يكون مريحا لا لإيران ولا لباكستان مع أن باكستان حليف سابق لحركة طالبان وإيران من جهتها يهمها أن تنشغل طالبان بحرب أهلية بدل مشاغلتها على حدودها.

ليس من مصلحة أي طرف من اطراف القضية الأفغانية وقوع حرب أهلية. فالكل سيخسر من مثل هذه الحرب ولن يكون فيها منتصر. لكن البلاد مع ذلك لن تشهد الاستقرار الذي تسعى إليه تلك الأطراف.

بعد استيلاء طالبان على الحكم في أفغانستان من جديد لن يكون إخراجها سهلا. في العام ألفين وواحد وجدت الولايات المتحدة المبرر لغزو أفغانستان من خلال ما قامت به القاعدة من عملية إرهابيه في الحادي عشر من سبتمبر. اليوم لن يكون هناك مثل هذا المبرر والولايات المتحدة غير مستعدة لحرب جديدة للعودة إلى أفغانستان.

في غضون أيام قليلة انهار كل ما حاولت الولايات المتحدة بناءه في عشرين عاما. بعض وسائل الإعلام استشعرت ما يعانيه الأفغان الذين اخذوا يلومون الولايات المتحدة على انسحابها وغضبهم لم يكن على الأمريكيين بل أيضا على حكومتهم التي لم تقم ببناء دولة عصرية برغم مما انفق عليها من أموال.

هذه التطورات التي تشهدها أفغانستان لم تكن مفاجئة فقد كانت متوقعة منذ أن أعلنت الولايات المتحدة أنها ستنسحب من البلاد. لكن السؤال الأهم الآن هو هل ستعطي طالبان ملاذا آمنا لمقاتلي داعش الذين يمكن أن يتجمعوا في أفغانستان طالبان مثلما تجمع مقاتلو القاعدة في التسعينات؟ الجواب يبدو صعبا لكنه نعم ولا في نفس الوقت. داعش غير القاعدة هذا أولا. طالبان ولدت من بطن القاعدة التي كانت موجودة في أفغانستان تقاتل الوجود الروسي هناك. والقاعدة هي التي ساعدت طالبان على الوصول إلى الحكم في عام ستة وتسعين.

الآن الوضع مختلف بين طالبان وداعش. صحيح أن داعش خرجت أيضا من بين ضلوع القاعدة في العراق والشام لكن طالبان قد لا تستطيع التعامل مع داعش لاختلاف في الاستراتيجية وان كانت تلتقي معها في كثير من التكتيكات. واذا أرادت طالبان أن توفر الملاذ الأمن لداعش في أفغانستان فهذا لن يكون من دون مقابل. وهذا المقابل قد لا يكون معلوما اليوم وقد يتكشف في وقت لاحق أو في الوقت المناسب.

بعض وسائل الإعلام رأت أن الحال في كابول أشبه ما يكون بحال سايغون عاصمة فيتنام عشية خروج الأمريكيين منها عام خمسة وسبعين. وكان هذا سببا للقول أن الولايات المتحدة هزمت وطالبان انتصرت. فهل هذا ما حدث؟

شروط النصر والهزيمة تختلف من شعب إلى شعب ومن دولة إلى دولة. وبالنسبة للولايات المتحدة فإن خروجها من أفغانستان سببه أن كلفة وجودها أصبحت عالية جدا كما أنها لم تعد تهتم بهذا الوجود لأنها تنظر إلى أهداف استراتيجية جديدة مختلفة تدعوها للخروج من كل منطقة الشرق الأوسط.

كذلك فانه من مبدأ أن عدو عدوي قد يكون صديقي سترضى الولايات المتحدة بحكم طالبان في أفغانستان طالما أن هذا الحكم يسبب القلق لإيران ويشكل عامل ضغط إضافي على طهران التي أعربت وزارة خارجيتها عن قلقها العميق مما يجري في أفغانستان.

معروف عن السياسة الأمريكية الخارجية أنها سياسة براغماتية وعندها الغاية تبرر الوسيلة وهي تنظر إلى مصالحها بطريقة تختلف عن نظرة العالم إليها. لذلك فقد ترضى عن وجود طالبان في حكم أفغانستان طالما أن هذا الوجود لا يهدد مصالحها وليس للولايات المتحدة مصالح كبرى في أفغانستان ومصالحها مع باكستان وهذا امر آخر.