أرضية مشتركة بين إيران وطالبان
في المرة الأخيرة التي استولت فيها طالبان على السلطة في أفغانستان عام 1996، لم يكن هناك أي سؤال يُطرح حول شكل النظام الذي ستؤسِّسه ومن سيحكم البلاد، كان الهدف الأساسي آنذاك هو ملء الفراغ، لكن الظروف مختلفة اليوم، فمنذ أن أطاح التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة بحكومة طالبان عام 2001، تحولت العاصمة الأفغانية إلى مدينة مزدحمة ومكتظّة، يقطنها 6 ملايين نسمة، كما تغيرت بقية البلاد بشكل كبير أيضاً، وأصبحت المهمة التي تواجه الصاعدين الجدد بحكم الأمر الواقع أكثر صعوبة وتعقيداً من السابق.
وفي هذا الإطار، أشار إعلان قادة طالبان عن عزمهم تأسيس ما أسموها إمارة إسلامية في أفغانستان، تعكس خصوصية المجتمع الأفغاني المتنوع ثقافياً ومذهبياً، وتراعي الحقوق والحريات في حدود الشريعة الإسلامية؛ أحد أبرز أوجه التحول السياسي للحركة، مع ضرورة الإشارة هنا إلى نقطة هامة للغاية، وهي أن طالبان لديها تاريخ طويل في الانقلاب على مواقفها السياسية التي سبق وأن تعهّدت بها، ففي عام 1994، طرحت الجماعة نفسها كقوة معتدِلة تتقبل الآخر، ولكن بعد وصولها للحكم عام 1996، أظهرت خلاف ما تعهدت به، وفي صعودها الأخير عادت الحركة لتتعهد بشروط أوسع وأكثر أهمية، ما يثير العديد من التساؤلات حول مدى نجاح الجماعة للالتزام بها في المستقبل.
وفي هذا السياق، يمكن القول بأن الأنظمة التي تولد من رحم الأيديولوجيا الدينية، لا تستطيع أن تخفي حقيقتها لفترة طويلة، حيث تتبنّى فقه الضرورة لتتمكن سياسياً، ومن ثم تحكم بوجه مغاير، فعلَتها إيران بعد نجاح ثورة الخميني عام 1979، وتأسيس جمهورية ثورية متشددة، فبعد أن تعهّد الخميني بضمان الحقوق والحريات السياسية، وأهمها حقوق المرأة، إلا أنه سرعان ما انتُهكت هذه الحقوق، وعُلقت المشانق في ساحات طهران، والتي طالت العديد من التنظيمات الشيوعية واليسارية، وحتى رفاق الثورة وقادتها لم ينجوا من مطرقة الثورة وسندانها، واليوم حركة طالبان تكرِّر المشهد ذاته، ورغم أن الإجابة الكاملة تحتاج لمزيد من الوقت حتى تستقر الأمور للجماعة، إلا أن تاريخها يثير الكثير من الشكوك حول مدى تحولها لحركة أكثر وسطية واعتدالا من السابق.
إمارة أفغانية بنكهة خمينية
إن التوجه الحالي نحو تأسيس إمارة إسلامية في أفغانستان، يوحي بخطوة هامة للحركة، عبر تأسيس نموذج سياسي بعيد عن “خلافة داعش” وقريب من “جمهورية خميني”، وهو توجه قد يأتي كحالة توافقية بالنهاية لترضية الرؤوس المتعددة داخل الحركة، واستيعاب جميعها ضمن نظام الحكم الجديد، لتقوية وجود الحركة أولاً، ومنع التفكك والصراع الداخلي ثانياً، وإن تأسيس طالبان لنموذجها السياسي الخاص بها، والذي يجمع ما بين أغلب خصائص جمهورية الخميني (رئيس إمارة إلى جانب أمير مؤمنين)، قد يؤسس بالنهاية لحالة دينية – سياسية جديدة في الشرق الأوسط.
إلا أن التساؤل المهم هنا: هل سنكون أمام إمارة إسلامية توازن ما بين الحقوق والحريات والضوابط الإسلامية، أم أمام إمارة تقدم الضوابط الإسلامية على الحقوق والحريات؟ هذه الموازنة فشلت حتى اللحظة في جمهورية الخميني في إيجاد إجابة واضحة لها، فهل تنجح الجماعة في تجاوز هذا الفشل، إذ أثار الصعود الكبير لطالبان تحولاً عاصفاً في مجريات الأحداث العالمية، وهو تحول مشابه لذلك الصعود الذي أثاره الخميني عام 1979، وما يزيد من هذه الإثارة إنها محاولة مهمة لحركة إسلامية أظهرت تحولاً سياسياً في خطابها الداخلي والخارجي، وأوجدت قطيعة واضحة مع الماضي حتى اللحظة.
تتمثل الخشية الأكبر عند المقارنة بين تجربتي إيران وحركة طالبان، في أن محاولة التوفيق بين الأيديولوجيا الدينية للحكم والحقوق والحريات، أظهرت سطوة الأولى على الثانية، فالخميني حرم المرأة من التصويت ومن ثم تراجع عن هذا التحريم في نهاية الثمانينات، كما أوكل للشرطة الإسلامية التابعة للباسيج مهمة محاسبة المرأة في لباسها وسلوكها وتحركاتها خارج المنزل، وهي حالة بدأت تجد لها مساحة في داخل أفغانستان بعد سيطرة طالبان، وهو ما بدأ واضحاً في التقييد الذي فرضته الحركة على أغلب حريات المرأة التي كانت موجودة قبل سيطرتها.
وهنا أيضاً؛ تشير التجربة الإيرانية والطالبانية أن كليهما يؤمنان بفكرة “الدور التقليدي للمرأة”، وهي فكرة بدت لصيقة أكثر بتجربة إيران السياسية، كونها أقدم تأسيساً، حيث عانت المرأة الإيرانية من تقييد كبير لحقوقها، وتحديداً الاقتصادية والسياسية، كما فرضت إيران قيودا مشددة على مسألة الحجاب، وفي هذا الإطار؛ قامت جمهورية الخميني بممارسة إجراءات صارمة في فرض الحجاب على المرأة الإيرانية، سواءً داخل المنزل أو خارجه، ومن ثم ربطت هذه الممارسة بمواد قانونية عديدة، أهمها ما نصت عليه المادة 638 في قانون العقوبات الإسلامية، حيث أقرت عقوبات تتعلق بعدم ارتداء الحجاب تتراوح ما بین التعزیر وغرامة مالية تصل إلى عشرين دولار، وصولا للحبس من عشرة أيام إلى شهرين، و74 جلدة، وهذا الواقع دفع المرأة الإيرانية للتمرد عليه، كما حصل في احتجاجات يناير 2018 فيما عرف آنذاك بحملة “بنات شارع انقلاب” بعد أن قامت الناشطة الإيرانية “فيدا موحد” بخلع حجابها، وهي تقف وسط جموع من المواطنين الإيرانيين.
وعلى صعيد الحقوق الاجتماعية قُيدت حركة المرأة الإيرانية في ممارسة الأنشطة الرياضية، أو حاجة المرأة إلى إذن زوجها لمغادرة المنزل والدراسة والعمل ومغادرة البلاد، ورغم عدم وجود قوانين مكتوبة تمنع المرأة من ممارسة هذه الحقوق، إلا إن العرف الاجتماعي وضع أمام المرأة الإيرانية الكثير من التحديات؛ منها ذهاب النساء إلى الأحداث الرياضية أو ركوب الدرجات الهوائية، أو إقامة حفلات لمغنيات أو حتى حفلات نسائية، وتسهيل عمل المرأة، والمطالبة بالأجور المتساوية، فالفكرة هنا لا تتعلق بحقوق جانبية للمرأة، وإنما بعملية الإقصاء الإجتماعي الذي تعانيه، وهي حالة تتكرر اليوم مع حركة طالبان التي قيدت جميع هذه الحقوق، ووضعتها ضمن خانة فضفاضة “عدم مخالفة الضوابط الإسلامية”، وهي ضوابط غير محددة حتى الآن، ما يعني أن ممارستها ستخضع لسلطة الحركة التقديرية، وليس لقوانين مكتوبة.
إن أبرز تحدي تواجهه المرأة الأفغانية اليوم، لا يتعلق بمدى التزام حركة طالبان بتوفير بيئة آمنة لعمل المرأة، أو ضمان حقوقها السياسية، بل بعمل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة في أفغانستان، لأن الأمر سيخضع بالنهاية لسلطة وتقدير الحركة، ولن تسمح الحركة على مالايبدو بأي تدخل دولي لمعالجة هذا الوضع رغم التحذيرات الأممية المتكررة، والتي كان أخرها ما أعلنته “أليسون دافيديان” نائبة ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في أفغانستان، بأن حركة طالبان لا تنفك تؤكد أن “حقوق المرأة ستُحترم في إطار الإسلام، لكننا نتلقى كل يوم تقارير عن انتكاسات تتعلّق بهذه الحقوق.
إن إجراء مقارنة بين تجربتي إيران وحركة طالبان توحي بكثير من التقارب على مستوى السلوك والأيديولوجيا، هذا التقارب يؤشر بدوره لحالة التشابه الكبير بين النموذجين على مستوى الراديكالية السياسية والإقصاء الاجتماعي الذي تعاني منه المرأة، إلا إن ذلك لا يمنع من القول، بأن النموذج السياسي لكل منهما يختلف عن الآخر، ففي مقابل الثورية الخمينية “الشيعية”، تمثل حركة طالبان “جهادية سنية متشددة”، ورغم حالة التناغم السياسي الحالي بين الجارين، لحاجة كل منهما للآخر، خصوصاً وإنهما يخضعان لذات الضغوط والعزلة الدولية، إلا إن انفجار الأوضاع بينهما قد يحصل في أي لحظة ممكنة، وذلك نظراً للأيديولوجيا العابرة للحدود التي يؤمن بها كلا النظامين.