أوروبا تسعى لتعزيز دور القوة الناعمة للاستجابة للأزمة
منذ أوائل القرن الحادي والعشرين وقادة أوروبا ومفكروها يُرَوجون لفكرة أن المشروع الأوروبي لا يتعلق فقط بالفرص الاقتصادية؛ بل إن جوهرها، كما يزعمون، هو الأخلاق وتعزيز القيم المشتركة، بما يعني ضمناً أن القوة الناعمة لأوروبا أكثر فاعلية من القوة الصلبة للولايات المتحدة.
لقد كان قول ذلك أمراً سهلا في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي كانت إدارته صورة كاريكاتورية لـ”واقعية” السياسة الخارجية، وهي الصورة التي أصبحت واضحة الآن من خلال غزو روسيا لأوكرانيا. إذ سخر ترامب من أوكرانيا واصفا إياها بالدولة “الفاشلة”، وقيل أن وزير الخارجية آنذاك، مايك بومبيو، سأله قائلا:”هل تعتقد أن الأمريكيين يكترثون لأوكرانيا؟”.
والآن، أمام أوروبا فرصة لتبرهن عن قيادتها الأخلاقية في الاستجابة للأزمة، وتدعم خطابها النبيل بالأفعال، وتُبين أن الأوروبيين ليسوا منافقين. إذ من خلال الحرب في أوكرانيا يمكنها أن تظهر صورتها الحقيقية. فالآن، بعد أن أعيد تشكيل الجغرافيا السياسية، أصبحت أوروبا الموحدة ضرورية أكثر من أي وقت مضى. ولكن كي ترقى أوروبا إلى مستوى المناسبة، فعليها أن تعرف كيف تتصرف تصرفا فعالا.
الطاقة تعتبر من بين أكثر القطاعات تعرضا للمخاطر
إن أكثر القطاعات تعرضا للمخاطر هو قطاع الطاقة. إذ أشار الخبير الاقتصادي الإسباني الليبرالي، لويس جاريكانو، في خطاب قوي ألقاه أمام البرلمان الأوروبي في وقت سابق من هذا الشهر، إلى أن أوروبا تنفق على مساعدة أوكرانيا أقل مما تنفقه على دعم حرب الكرملين، وذلك من خلال شرائها لصادرات الطاقة الروسية. هناك، إذاً، حجة قوية يجب تقديمها للوقف الكامل لواردات الغاز والنفط من روسيا. إلا أن ذلك قد يكون مكلفاً، ويتطلب إجراءات باهظة الثمن لمساعدة أوروبا على فطام نفسها عن مصدر طاقة طويل الأمد.
وعلى الرغم من وجود خيارات معقولة لتخفيف الآثار الناجمة عن ذلك، مثل تأخير الصيانة الروتينية لمنصات الغاز النرويجية والسماح لمحطات الطاقة النووية الألمانية بالبقاء قيد التشغيل، إلا أن الوضع يتطلب في النهاية الحد من استهلاك الطاقة.. ومن المحتمل أن يتم التعامل مع هذا بصورة أفضل من خلال آلية السعر، حيث يؤدي ارتفاع أسعار الوقود إلى تقليل الطلب وزيادة تكاليف التصنيع الألماني.
وسيكون هذا الخيار مؤلمًا بالتأكيد. إذ قد يؤدي إلى تراجع الاعتماد على السيارت في التنقل، وستصبح الأنشطة الترفيهية أقل متعة، وسيزيد من احتمال حدوث كساد اقتصادي. إلا أنه في نهاية المطاف، لا أحد يستطيع معرفة التكاليف الكاملة التي ستتحملها أوروبا.
وتشير ورقة بحثية حديثة أعدها روديجر باخمان وآخرون إلى أن التكلفة بالنسبة لألمانيا (البلد الذي يحتمل أن يكون أشد تأثراً) ستتراوح بين 0.5٪ و3٪ من الناتج المحلي الإجمالي، أي أقل من الانخفاض الناجم عن الوباء في عام 2020 والبالغ 4.5٪. ولكن توقعات الخبير الاقتصادي، جيمس هاميلتون، التي تأخذ في الحسبان الآثار المترتبة على الاقتصاد الكلي للأزمة، تقول أن التكاليف سترتفع إلى حد كبير وقد تتأثر بعض الدول الأوروبية أسوأ من غيرها.
إذ تعتمد فنلندا، ولاتفيا، وبلغاريا على الغاز الروسي أكثر من ألمانيا، ولا تختلف عنها إيطاليا كثيرا. ورغم أن بولندا تعتمد إلى حد كبير على الغاز الروسي، دعت حكومتها بشجاعة إلى مقاطعته. وجعل الغزو الروسي جارتها بولندا تدرك أن المشروع الأوروبي الذي أمضى قادة بولندا الحاليون سنوات وهم يستهزؤون به، فكرة تستحق الدفاع عنها.
التغير المناخي أحد أسباب قلق أوروبا من استخدامات الطاقة التقليدية
وعلى نطاق أوسع، أصبح القادة الأوروبيون قلقين بصورة متزايدة بشأن التكاليف طويلة الأجل لطاقة الكربون وتداعياتها على الكوكب. إن ما يقال كثيرا في ما يتعلق بالتصدي لتغير المناخ هو أننا يجب أن نقدم بعض التضحيات اليوم من أجل جعل الحياة أفضل للأجيال اللاحقة. ولكن روسيا بسطت هذا المنطق بقدر أكبر الآن. إذ في ماريوبول، وكييف، وخاركيف، وشرق أوكرانيا، سيؤدي قطع مصدر الدخل الرئيسي للكرملين إلى إنقاذ الأرواح على الفور، وليس بعد مرور سنوات.
أوروبا تسعى لتقليص واردات النفط والغاز الروسية بأسرع وتيرة ممكنة
وتعتمد مكانة أوروبا الأخلاقية على تقليصها لواردات النفط والغاز الروسية بأسرع وتيرة ممكنة. ولكن لكي تكون العملية ذات مصداقية، يجب أن تكون مستدامة. وستكون هناك حاجة لاتخاذ إجراءات سريعة لتقليل التداعيات الاقتصادية في أوروبا. ويأمل المرء أن تؤدي مقاطعة الطاقة الروسية إلى إحلال السلام عاجلاً وليس آجلاً، ولكن في نفس الوقت يجب أن تكون أوروبا مستعدة لسيناريو أطول أجلاً.
ولحسن الحظ، لا تتعارض الأخلاق والسياسة الواقعية دائمًا، وهناك حجة براغماتية قوية لتجميد واردات النفط والغاز الروسي الآن، بدلاً من الاعتماد على تدابير تبدو أقل قساوة. إذ من المرجح أن يؤدي الحصار الكامل والمفاجئ إلى إعادة النظر في الحرب داخل روسيا. وإذا أدى ذلك إلى تغيير في السياسة من جانب الكرملين، فلن يكون هناك داعٍ حتى للإبقاء على الحصار على المدى الطويل. إذ قد تتمكن أوروبا قريبًا من الوصول إلى النفط والغاز الروسي مرة أخرى، وإن كان ذلك بشروط مختلفة تمامًا.
ولكن إذا اتضح أنها لعبة طويلة، فستحتاج أوروبا إلى الثبات السياسي والأخلاقي للحفاظ على الحظر إلى أجل غير مسمى. ورأى (ونستون تشرشل) هذه النقطة بوضوح في سبتمبر/أيلول 1938.
“يبدو أننا نقترب جدًا من لحظة الاختيار الصعب بين الحرب والعار. وشعوري هو أننا سنختار العار، ثم سرعان ما ستدق طبول الحرب بشروط أقسى من تلك التي نتحملها اليوم”.
ونستون تشرشل
لقد أصبح تشرشل مدافعًا قويًا عن الوحدة الأوروبية بعد هزيمة النازية. ويجب أن تكون كلماته مصدر إلهام لأوروبا اليوم.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
Copyright: Project Syndicate, 2022.
www.project-syndicate.org