مصر على وقع الأزمة الأوكرانية.. بين خطة الإنعاش ورغيف العيش
يتغلب المصريون عادة على همومهم بالسخرية منها، فبدلاً من توقع نتيجة مباراة، يتوقعون نتيجة أسعار البنزين. يعرفون أن هناك زيادة قادمة، قد تأتي بعد المباراة وقد تتأخر. ربطوا التوقعات بخفض قيمة الجنيه لأسباب وضعها رئيس وزراء مصر والمسؤولون الحكوميون في رقبة الحرب الروسية الأوكرانية. مضى شهر وأكثر على بدء الحرب، وظن بوتين أنه سيحسم المعركة سريعاً. طال أمد الحرب، وامتدت آثارها إلى معظم أنحاء العالم ومنها مصر التي تعتمد بشكل كبير في وارداتها من السلع والسياحة على روسيا وأوكرانيا.
أربكت الحرب حسابات دول، وهددت أمنها القومي لعجزها عن توفير احتياجات شعوبها، ولجأت دول إلى الاحتياطي الاستراتيجي لديها لسد نقص في السلع الغذائية أو الطاقة. تعقدت الحسابات مع العقوبات، وتشابكت المصالح مع السياسات، ونشبت خلافات مع حلفاء، ونمت صداقات مع فرقاء.
خطة الإنعاش
يعاني الاقتصاد المصري حاليا من أزمات حادة، أبرزها التضخم وارتفاع أسعار المواد الغذائية والطاقة، وانخفاض عائدات السياحة القادمة من روسيا وأوكرانيا حيث تشكلان 40 % من حجم السياحة الشاطئية لمصر سنوياً، إضافة إلى تخارج عدد كبير من المستثمرين الأجانب من استثمارات أدوات الدين المصرية بعد قرار الفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي الأمريكي) والبنوك المركزية الكبرى في العالم برفع أسعار الفائدة لديها.
كل هذا جعل الاقتصاد المصري يعاني. استوقفتني هذا الأسبوع تصريحات وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي التي نشرتها رويترز خلال زيارته للقاهرة عن وقوف فرنسا بجانب مصر إذا استمرت الحرب لتتأكد من حصولها على ما تحتاجه من القمح. انتهى كلام الوزير الذي يشمل لقبه كونه وزيراً للإنعاش الاقتصادي.. وقوف فرنسا بجانب مصر ينعش اقتصاد فرنسا التي أنعشت مصر اقتصادها من قبل بصفقات سلاح وقد تنعشه مرة أخرى بصفقات القمح لسد العجز الحاصل في وارداتها بسبب الحرب.
الاقتصاد كما المريض يحتاج إلى إنعاش، ومصر مشغولة حالياً بخطة عاجلة لإنعاش اقتصادها، عبر خطة لا تبدو معلنة لكنها تتكشف بمجموعة من القرارات، وملامحها تبدو في خمسة محاور رئيسية:
المحور الأول هو خفض قيمة الجنيه ورفع سعر الفائدة، وبعد هذا القرار تجاوز سعر الدولار الأمريكي حاجز 18 جنيه مصري، أما المحور الثاني للإنعاش تمثل في زيادة احتياطي النقد الأجنبي، وضخ استثمارات دولارية من دول عربية، فالسعودية أودعت 5 مليارات دولار في البنك المركزي المصري لمدة عام قابل للتجديد، لتصل ودائع السعودية لدى مصر إلى 10.3 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات سريعة لجذب استثمارات بقيمة 10 مليارات دولار بالتعاون بين “صندوق مصر السيادي” و”صندوق الاستثمارات العامة السعودي” حسب تصريحات رئيس وزراء مصر.
ضمن هذا المحور أيضاً حصلت انفراجة كبيرة هذا الأسبوع في العلاقات المصرية القطرية، بدأت بإشادة من وزير الخارجية المصرية بدور قطر في المنطقة، ثم في اليوم التالي أعلن رئيسا وزراء البلدين عن ضح قطر استثمارات بـ 5 مليارات دولار في مصر، وكان البداية في هذا الملف بالإعلان عن صفقة مع الإمارات لشراء أصول مملوكة للحكومة المصرية بقيمة 2 مليار دولار في البنك التجاري الدولي CIB و شركة فوري، وستشمل صفقة الصندوق السيادي الإماراتي شركات أخرى مثل “أبوقير للأسمدة” و”موبكو” و”الإسكندرية للحاويات” وكلها شركات ناجحة، وقد تحذو الكويت قريباً حذو الإمارات والسعودية وقطر وتعلن عن استثمارات أو ودائع دولارية بعد زيارة السيسي لها في فبراير الماضي.
المحور الثالث للخطة المصرية للإنعاش كان اللجوء لصندوق النقد الدولي للمرة الرابعة في 6 سنوات لتوفير احتياجاتها من العملات الأجنبية اللازمة لشراء المواد الغذائية وسد ديونها الخارجية، ومن المتوقع ألا يقل القرض الجديد عن 5 مليارات دولار، لتضاف إلى 20 مليار دولار حصلت مصر عليها على 3 مراحل بدأت بـ 12 مليار دولار بعد تعويم الجنيه في 2016 ثم قرضين آخرين بثمانية مليارات دولار.
أما المحور الرابع يتمثل في اتجاه الحكومة المصرية للتخارج من عدد من القطاعات الاقتصادية لصالح القطاع الخاص، تحت اسم “وثيقة سياسة ملكية الدولة” ولم تكشف الحكومة عن تفاصيل استراتيجيتها الجديدة لكن العنوان العريض لتلك الوثيقة يعني أن القطاع الخاص سيحصل على حصص في عدد من الشركات والمشاريع المملوكة للحكومة، ولم تشر الوثيقة إلى دخول المشاريع المملوكة للجيش أيضاً في الوثيقة أم لا، وكان البرلمان المصري قد أقر قانوناً العام الماضي لمشاركة القطاع الخاص في مشاريع البنية التحتية، بينما المحور الخامس يتمثل في ترشيد الإنفاق والتقشف وذلك في تعليمات واضحة للوزراء والمحافظين بتأجيل تنفيذ أي مشاريع جديدة لها مكون دولاري واضح، وحظر السفر وإجراءات أخرى.
القمح ورغيف العيش
أعود إلى ملف القمح ورغيف العيش الذي ظل كلمة سر كبيرة في حياة المصريين لقرون، يخشونه ويعملون له ألف حساب ويسري على ألسنتهم وأمثالهم الشعبية، بل جعل الفراعنة للقمح إلهًا وعبدوه، وارتبط ملف القمح ورغيف العيش بالغضب الشعبي على مدار التاريخ، وفي دراسة للباحث محمد عبدالله يفند فيها هذا التاريخ ويسرده بتفاصيله، ويكشف جوانب الفساد وغش التجار في هذا الملف لسنوات طويلة وكأن التاريخ يعيد نفسه.
في يناير من عام 1977 قامت انتفاضة الخبز الشهيرة التي أسماها الرئيس المصري آنذاك أنور السادات بانتفاضة الحرامية بعد مظاهرات اعتراضاً على رفع الدعم عن السلع الأساسية ومنها سعر الخبز وربما يفسر ذلك عدم لجوء أي رئيس مصري منذ عام 1988 إلى رفع سعر الخبز (العيش) البلدي المدعم عن 5 قروش خوفاً من أي غضب شعبي، بينما أعلنت الحكومة المصرية مؤخراً عن تحديد سعر الخبز الحر أو السياحي كما يحلو للبعض تسميته.
صحيح لم يرتفع سعر رغيف الخبز أو العيش البلدي منذ أكثر من 33 عاماً لكن الحكومة لجأت إلى حيل أخرى، العيش كان متاحاً لجميع المصريين بأي كميات من الأفران البلدي، ثم بعد ذلك أصبح متاحاً لمن لديه بطاقة تموين فقط، ثم حددت الدولة 5 أرغفة لكل فرد لديه بطاقة تموين، وبالتالي لم يعد بمقدور جميع المصريين الحصول على العيش المدعم.
الحيلة الأخرى كانت خفض وزن الرغيف، ففي عام 1988 كان سعر الرغيف خمسة قروش ووزنه 135 جراماً، ثم انخفض إلى 130 جراماً وفي عام 2014 أصبح 120 جراماً وفي 2016 انخفض إلى 110 جرامات، ثم أصبح 90 جراماً في نوفمبر من عام 2020، أي أن الرغيف فقد ثلث وزنه مع بقاء سعره.
أصل المشكلة
طارد حلم الاكتفاء الذاتي من القمح كثيرين، باحثين وصحفيين وسياسيين، لكن ما باليد حيلة! لا الدولة لديها القدرة ولا تملك الرقعة. فالمساحة الزراعية في مصر تبلغ مساحتها الإجمالية 9.4 مليون فدان، تزرع مصر منها 3.6 مليون فدان بالقمح أي ثلث المساحة تقريبا، وباقي المساحة يزرعها المصريون بمحاصيل أخرى للاستهلاك المحلي أو للتصدير الخارجي بأسعار تفوق أسعار استيراد القمح.
وتستهلك مصر 20 مليون طناً من القمح، بينما تنتج منه محلياً 8 ملايين طن تقريباً وتستورد 11.6 مليون طن، فأصبحت المستورد الأول عالميا للقمح، و 80 % من وارداتها تأتي من روسيا وأوكرانيا.
قبل أشهر من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ارتفعت أسعار القمح عالمياً ووصلت ذروتها مع بدء الحرب لأعلى مستوى منذ 10 سنوات، فسعر الطن الواحد من القمح المستورد ارتفع بأكثر من 100 دولار عن سعره في الموازنة العامة، وهو ما يكلف مصر أكثر من 15 مليار جنيه إضافية. واضطرت الدولة إلى طرح مناقصتين عالميتين لتأمين احتياجاتها، ثم ألغتهما فيما بعد لارتفاع السعر وقلة المعروض، ثم قال وزير التموين إن المخزون الاستراتيجي والقمح المتوقع توريده من الفلاحين المصريين في موسم الحصاد ( شهر أبريل) يكفي حتى نهاية العام ولا داعي للقلق.
الحكومة رغم إعلانها عن زيادة سعر التوريد من الفلاحين بحوالي 8 % عن العام الماضي، إلا أنها تدرك جيدا أن هذه الزيادة تكلفها 35 مليار جنيه إضافية عن العام الماضي في حال وصل الناتج من القمح المحلي إلى 6 مليون طن. ووضعت شروطاً إلزامية للفلاحين لتوريد ما لا يقل عن 12 أردب عالي الجودة لكل فدان أي حوالي ثلثي المحصول حيث تبلغ إنتاجية الفدان الواحد حالياً من 18 إلى 20 أردب في المتوسط، وتعاملت الحكومة مع الفلاحين بالعصا والجزرة لتجبرهم على توريد المحصول مع ربط الأمر بحصول الفلاحين على الأسمدة وتقاوي المحاصيل من خلال البطاقة الزراعية، والبطاقة الزراعية هي واحدة من أشهر البطاقات التي يحملها المصريون مثل بطاقات الرقم القومي وبطاقة التموين ومؤخراً أضيفت بطاقة الخدمات المتكاملة لذوي الإعاقة.
حكاية بطاقة التموين
عرف المصريون بطاقات التموين لأول مرة في أربعينيات القرن الماضي تزامناً مع الحرب العالمية الثانية وبدأت ببطاقات لتوزيع الجاز (الكيروسين) ثم أضيفت الأقمشة وسلعاً أخرى تباعاً، وكان الهدف هو ضبط السوق بسبب جشع التجار، وظلت بطاقات التموين حلاً لأزمات التضخم وارتفاع الأسعار بعدد من الدول، ووصل الأمر في مصر إلى أنها ضمت 18 سلعة منها الأسماك والفراخ واللحوم المجمدة والفول والعدس ثم ألغيت، وأضيف إليها مؤخراً العيش البلدي، وكان التموين يُصرف من البقال ثم أصبح يصرف من الأفران.
لم تمر مصر بأزمة سلعية خلال حرب أكتوبر 1973، واستعدت لها مسبقاً بتوفير السلع الأساسية عبر بطاقات التموين حتى لا يتكرر ما حصل في الحرب العالمية الثانية، ثم جاءت حرب أوكرانيا مؤخراً لتضع العالم كله في أزمة تضاف إلى أزمات مصر التي لجأت لحلول مؤقتة أخرى منها كرتونة مواد غذائية من تصنيع وتعبئة الجيش، يضخ منها 2 مليون كرتونة في شهر رمضان، وطلب الرئيس المصري من وزير الدفاع أن تباع الكرتونة بنصف ثمنها.
قد تحل الكرتونة مشكلة مواطن لأسبوع أو شهر، لكنها لن تحل أزمته باقي السنة، لذلك لا بديل عن تحول مصر من دولة مستوردة لأغلب احتياجاتها إلى دولة تعتمد في اقتصادها على الإنتاج والتصنيع والتصدير، دولة تحقق التنوع في مواردها كما تتنوع في مصادر سلاحها، دولة تحقق الاكتفاء الذاتي من القمح، بدلاً من الاكتفاء الذاتي من الدراما، دولة توقف نزيف الموازنة وتجذب الاستثمار الأجنبي، دولة تخرج من الدوامات ولا تدخلها.