من هو أحمد جاب الله؟
تمتلك مصر شباباً مبدعين وناجحين، حققوا إنجازات في مجالات عديدة بالخارج، منهم من نعرف قصصهم ومنهم من بقوا مجهولين.
في فبراير الماضي، فقدت مصر أحد هؤلاء وهو العالم المصري د.أحمد عبدالقادر الذي رحل في صمت بعد إصابته بـ “كورونا” خلال زيارته السنوية لمصر، رحل دون أن تحتفي به مصر أو تكرمه، ودون أن يعرف أحد بإنجازاته.
عمل الراحل في كبرى الشركات العالمية مثل جوجل وفيس بوك ومايكروسوفت وغيرها كمبتكر وعالم في مجال الذكاء الصناعي، وأنجز أكثر من ٤٠ براءة اختراع في مجال الذكاء الصناعي، ونعاه Yann Lecun نائب رئيس شركة ميتا (مالكة فيس بوك) وكبير علماء الذكاء الاصطناعي بالشركة.
كنت محظوظاً بصداقة الراحل أحمد عبدالقادر منذ عام 2015. كان عبقرياً وخلوقاً وشديد التواضع، يساعد بدون مقابل، ولا يبخل بشيء، وكنت محظوظاً أيضاً بصداقة نموذج مصري آخر ملهم، هو أحمد جاب الله. عمل “أحمد عبدالقادر” و”أحمد جاب الله” سوياً في جوجل وفيس بوك، تزاملا ونشأت بينهما صداقة كمصريين ناجحين، حققا العديد من الإنجازات، مات أحمد عبدالقادر واختار أحمد جاب الله أن يكون الموت شغله الشاغل.. ترك عمله في جوجل وآدوبي وفيس بوك بوادي السيلكون بأمريكا وعاد إلى مصر ليكون “حانوتي مودرن” ويؤسس شركة Sokna لتنظيم الجنازات كأول شركة من نوعها في مصر؟! فما هي قصته؟!
عائلة من الأطباء
ولد أحمد جاب الله في يناير 1982 بالأسكندرية، ودرس كانت في مدرسة سان مارك. والده هو د.عبداللطيف جاب الله أستاذ الروماتيزم بطب الأسكندرية، ووالدته هي د.دلال شوقي أستاذ طب وجراحة العين بنفس الجامعة، ورئيسة الجمعية الرمدية المصرية.
الدرة المشوي وتأجير الحمام للأسرة
ظهرت بوادر ريادة الأعمال على أحمد قبل أن يُكمل العاشرة من عمره، وقتها كان يؤجر حمام المنزل لأسرته بمقابل رمزي مقابل قيامه بتنظيفه باستمرار، وشرع في بيع الذرة المشوي مع نجل جار له، واستمر مشروعهما ليوم واحد بعدما انكشف أمرهما، وانتهى المشروع بـ “علقة”! وعندما كان في الخامسة عشرة من عمره، ذهب ليقدم على وظيفة مسوق عقاري، وعلم والده بالحكاية من أحد مرضاه وكان “يوم أسود”!
لماذا ترك دراسة الطب؟
كان مستوى أحمد في المرحلة الإبتدائية والإعدادية ضعيفاً، وفي الثانوية العامة تبدل الأمر خاصة بعدما تفاوض مع أسرته على منحه أموالاً مقابل المذاكرة، جمع من هذا التفاوض 7 آلاف جنيه قضى بها رحلة بأمريكا بعد نجاحه في الثانوية العامة ودخوله كلية الطب فقط لتلبية رغبة والديه.
لم يكمل دراسة الطب، وتقدم بالتوازي إلى الجامعة الأمريكية بالقاهرة لدراسة علوم الحاسب وإدارة أعمال.
كان الطفل الشقي العنيد شغوفاً ومتيماً برياضة الفروسية، ترك كل الألعاب من أجلها، فأصبح أصغر فارس في نادي سبورتينج، وحصل على بطولات عديدة على مستوى الجمهورية، ومن كثرة حبه للفروسية اشترى والداه له حصاناً عربياً أسماه “بندق”. ثم مارس رياضة الـ “بولو” واحترفها.
العمل في مطعم وتدريس الفرنسية
بعد التخرج من الجامعة الأمريكية بالقاهرة، هاجر “أحمد” إلى أمريكا، وأقام مع عمه في البداية، وحاول استغلال مواهبه لتعليم جيران عمه الفروسية، كما عمل في إعداد السندوتشات بكافيه la scala بمدينة walnut creek بالقرب من سان فرانسيسكو. كما حاول “جاب الله” استغلال إجادته للغة الفرنسية، فعمل “مدرس فرنساوي” للطلاب في Lafayette Academy وهي أكاديمية تقدم برامج تعليمية بعد اليوم الدراسي أو خلال الإجازة الصيفية.
المطاردة بعد زيارة جوجل
استقبل أحمد جاب الله دعوة من رانيا هادي نجلة صديقة والدته لزيارة شركة “جوجل” التي كانت تعمل بها، وهي من أقدم الموظفين العرب في جوجل، وتعمل حاليا في شركة هاواوي. عند وصوله وجد ملاعب وحمامات سباحة، ووجبات مجانية، فقرر أنه لن يعمل إلا في جوجل التي كان يسخر منها في البداية ويقول أنها مجرد صفحة بيضاء عليها لوجو!
منذ تلك الزيارة ظل أحمد يطارد “رانيا” باتصالات متكررة ومزعجة جعلتها تتوقف عن الرد عليه. لم ييأس، وأرسل إليها سيرته الذاتية مراراً عبر الإيميل، وعبر البريد إلى منزلها وعبر الفاكس إلى مقر عملها، حتى استسلمت “رانيا” وقدمت له على وظيفة مهندس حاسب آلي، لكن عليه اجتياز الاختبارات أولاً.
فهلوة المصريين
رسب أحمد في 7 اختبارات، ونجح في اثنين، أحدهما مع المدير المسؤول. هنا استخدم “جاب الله” ذكاءه وفهلوة المصريين، وعندما ذهب إلى مقابلة المدير، وقف “أحمد” أمام السبورة وأحضر معه أقلاماً، وأجاب عن الأسئلة التي فشل في الإجابة عنها من قبل بعدما بحث عنها، وقال للمدير: “أنا لو مكانك أتخذ قراراً بتعييني! فأنا لدي طاقة وطموح ورغبة في التعلم، إضافة إلى أنني موافق على العمل معكم مجاناً!”. في هذه اللحظة قرر المدير تعيينه لتمسكه الشديد بالعمل في الشركة!
السخرية لجذب الانتباه
انضم أحمد إلى جوجل في فبراير 2006، وبعد بضعة أشهر وخلال الإجتماع الأسبوعي للشركة الذي كان يعقد كل يوم الجمعة ويطلق عليه ” TGIF” اختصاراً لـ “Thank God It’s Friday”، استغل “جاب الله” الاجتماع، وحاول جذب الانتباه له، فسخر من حذاء “سيرجي برين” أحد مؤسسي جوجل، ثم اتجه بحديثه إلى إيريك شميت، رئيس جوجل في ذلك الوقت وقيادات الشركة.
قال لهم أنا واحد من ثلاثة في الشركة يتحدثون العربية، وهناك 300 مليون عربي مثلي، والبحث باللغة العربية غير جيد حتى الآن، وأنا لو مكانكم، المفروض تستغلوني في تطوير المحتوى العربي بدلاً من تصليح الأجهزة الذي لا أجيده”! ابتسم شميت، وأرسله إلى “أميت سينجال” رئيس قسم البحث في جوجل آنذاك.
عمل “جاب الله” تحت إدارة “أميت سينجال” لتطوير البحث باللغة العربية مثل خاصية “هل تقصد” عند البحث، وتصنيف النتائج حسب المنطقة، وغيرها من الخواص. ثم حصل على جائزة Google Founders’ Award، وهي جائزة خاصة تقدم من مؤسسي جوجل للإنجاز الاستثنائي.
منحته تلك الجائزة ثقة كبيرة في نفسه، وواصل انجازاته واهتمت به الشركة بشكل كبير، وأشرف على مشروع “knowl” والتقى رؤساء الجامعات في مصر والسعودية.
والتقى البابا تواضروس قبل تقلده منصبه، وآخرين، وأجرى مسابقات بين طلاب الجامعات لإثراء المحتوى العربي.
العمل في Adobe
بعد نجاحات “جاب الله” في جوجل لمدة زادت عن 4 سنوات، تركها وذهب ليعمل في Adobe في مارس 2010، لنفس الأهداف الخاصة باللغة العربية واللغات التي تكتب من اليمين إلى اليسار لتطوير منتجات Photoshop وIllustrator وInDesign وAcrobat ومنتجات Creative Suite الأخرى ولا يزال اسمه موجودا على منتج CS5.
تأثير مديرته في حياته
خلال عمله في Adobe تعرف على مديرته Priscilla Knoble، وهي أمريكية من أصول يابانية ويعتبرها “جاب الله” من أكثر الشخصيات التي أثرت في حياته، فيعترف أنه ساعدته على تطوير نفسه، وكانت تهتم به كإنسان وليس كموظف، وآمنت به وبقدراته، وكانت تخبره أنها في يوم من الأيام ستعمل معه.
عندما طرق مكتب زويل بدون موعد!
من ضمن الشخصيات التي أثرت في حياة “جاب الله”، كان العالم المصري أحمد زويل، فحاول التواصل معه من خلال مساعدته لكنه فشل، فكانت تتحجج له كل مرة ولا تمنحه موعداً.
تزامن ذلك مع دراسة جاب الله في لوس أنجلوس بالقرب من جامعة كالتك التي يعمل بها زويل.
قاد الشاب، بشخصيته العنيدة التي لا تيأس، سيارته لمدة ساعتين حتى وصل إلى مكتب زويل، وطرق الباب ودخل!
حكى “جاب الله” له عن فشله في الحصول على موعد، وإصراره على لقائه، وقام بتعريفه بنفسه، وحكى له عن والده الذي تعود جذوره إلى مدينة دسوق مسقط رأس زويل الذي استقبله بحفاوة وأطلعه على بعض الصور الشخصية والشهادات.
العمل في فيس بوك
في يوليو 2014، ترك “جاب الله” العمل في Adobe وانتقل إلى فيس بوك، وعمل مع مارك زوكربيرج على التوسع بالخارج وبخاصة في اليابان، ثم عمل على مساعدة 1.5 مليار شخص يستخدمون فيس بوك في العثور على أصدقائهم واكتشاف الأحداث الرائعة والتواصل مع الشركات والمجموعات؛ إضافة إلى جودة البحث والترتيب وتحسين البحث عن اللغات الصعبة وزيادة البحث على فيس بوك لأكثر من 2 مليار عملية بحث يوميًا.
الاستثمار في العقارات
16 عاماً قضاها أحمد جاب الله في أمريكا وتحديدا في سان فرانسيسكو، اقتحم خلالها مجالا آخر غير التكنولوجيا وهو الاستثمار العقاري، فكان يشتري منازل متهالكة في مناطق مختلفة ويعيد تشطيبها وتطويرها ثم يقوم بتأجيرها، خلال تلك الفترة تعرف على “هيرب” وكان يعمل سمسار عقارات، ونشأت صداقة بينهما، ثم مات “هيرب” فجأة وتسببت وفاته بصدمة لأحمد واضطر للمشاركة في جنازته بعد مقاطعته الجنائز لمدة 10 سنوات بعد وفاة والد صديقه عام 2005.
هنا بدأ تفكير أحمد في تأسيس شركة SOKNA لتنظيم الجنازات ودرس كل ما يخصها في مصر وباقي الدول كما درس تعامل الديانات والمذاهب المختلفة مع الجنائز.
ومنذ إطلاق الشركة في مصر، حققت نجاحاً وانتشاراً كبيراً وتتمثل خدماتها في إنهاء تصاريح الدفن والإجراءات القانونية وتجهيز الجثمان وإعداد المقابر وخدمات النقل وحجز قاعات العزاء ونشر النعي وتوزيع الصدقة الجارية والهدايا التذكارية وإعادة الجثمان من الخارج.
نظمت الشركة حتى الآن أكثر 3000 حالة وفاة، وتعاقدوا مع أكثر من 20 مستشفى وجهة كما نجحوا في جمع جولة تمويلية بمليون دولار.
لا أعلم إلى أين ستصل رحلة “جاب الله” الذي أكمل عامه الأربعين في يناير الماضي، إلا أنني على ثقة أن هذه الشخصية التي خاضت كل هذه التجارب، ستدخل في تحديات أخرى جديدة، وستكتب قصص نجاح في مصر وخارجها.