المصلحة تحكم العلاقة بين طهران والتنظيمات الإرهابية
لم تمثل الشعارات الرنانة والخطاب الأيديولوجي الإيراني عائقًا في يوم من الأيام أمام متابعة طهران لمصالحها بأقصى درجات البراجماتية، حتى لو اقتضى ذلك التعاون مع ألد خصومها وفقاً لحسابات مؤقتة تتغير بتغير الظروف وموازين القوى، فعدو العدو صديق اليوم حتى لو كان هو نفسه عدو الأمس والغد.
وتعد العلاقة بين نظام الولي الفقيه والتيارات الجهادية مثالاً واضحاً على ذلك، فرغم الخلاف الأيديولوجي الحاد الذي يصل لدرجة العداء المتأصل، وغياب الثقة بين الطرفين، تمكن الإيرانيون من الاستفادة من تلك التيارات وتبادل المصالح معها بحيث صارت سيوفها لهم لا عليهم، وصارت أراضيهم مقرا آمناً لها ومنطلقا لعملياتها في الخارج، رغم ما شاب هذه العلاقة من توترات.
وأعطت هذه العلاقة لطهران أوراق قوة في مواجهة الدول الغربية والعربية ووفرت لها حصانة من أن تكون أراضيها هدفاً للهجمات الإرهابية، فقد تواصل القيادي بحزب الله اللبناني، عماد مغنية، في بداية التسعينات مع تنظيم القاعدة حديث النشأة آنذاك، حينما كان زعيمه أسامة بن لادن يعيش في السودان، وتواصل الإيرانيون أيضاً مع أيمن الظواهري، القيادي بتنظيم الجهاد الإسلامي المصري، قبل أن يندمج مع القاعدة.
وبعد تفجيرات الخُبر في المملكة العربية السعودية عام 1996 التي نفذها “حزب الله الحجاز” وأوقعت 19 قتيلا أمريكياً، أدان قضاء الولايات المتحدة إيرانَ وفرض عليها تعويضات بمئات الملايين من الدولارات، وبعد هذه الواقعة فضلت دعم القاعدة لتنفيذ مثل هذه الهجمات بدلا منها فساعدتها في التجهيز لعملية تفجير السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998، وعرضت على التنظيم مده بالمال والسلاح لتيسير استهداف المصالح الأمريكية في السعودية ومنطقة الخليج العربي، وسهلت مرور عدد من منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 ضد الولايات المتحدة.
وبالتزامن مع الغزو الأمريكي لأفغانستان عقب 11 سبتمبر/أيلول، التجأ المئات من قيادات وعناصر القاعدة إلى الأراضي الإيرانية حيث وجدوا المأوى الآمن لهم ولأسرهم بعد سقوط أفغانستان بأيدي التحالف الدولي بزعامة واشنطن، وفكرت القيادات القاعدية في افتتاح مكتب في إيران للتجنيد وإرسال المقاتلين للخارج لكنهم تراجعوا بسبب التكلفة المالية، وفقاً لوثائق مسربة.
فقد نشرت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2017، مجموعة كبيرة من وثائق تخص زعيم القاعدة، أسامة بن لادن، تم الحصول عليها من مخبئه في مدينة أبوت آباد الباكستانية، بعدما اغتالته واشنطن في مايو/أيار 2011، وكشفت الوثائق علاقة التنظيم بطهران رغم ادعائها عدم صحة هذه التسريبات.
وقد شهدت العلاقة منحنيات صاعدة وهابطة وفقاً لعوامل مختلفة إلا أن توترات علاقات إيران بالغرب ألقت بظلالها على علاقتها بالقاعدة؛ فبعد الغزو الأمريكي للعراق في أبريل/نيسان 2003 استشعرت طهران الخطر بعدما أصبحت جيوش الولايات المتحدة تحيط بها من الشرق والغرب فلجأت إلى تقييد حركة عناصر القاعدة على أراضيها، وفي عام 2015 الذي شهد توقيع الاتفاق النووي وحدوث انفراجة في العلاقات بين طهران والغرب، تحرر قادة الجماعة من القيود التي فرضت عليهم لسنوات طويلة، مما سمح لهم بالإشراف على العمليات الدولية للتنظيم من داخل إيران.
واعتمدت القاعدة أسلوباً للتعامل يفهمه نظام الملالي جيداً، فانتهجوا طريقة خطف الرهائن للضغط عليهم عند مواقف الخلاف، وتجاوب الإيرانيون مع هذا الأسلوب مراراً، فبعد التشديدات التي فُرضت على القاعديين في 2003، لجأ زملاؤهم في العراق لخطف القنصل التجاري الإيراني ببغداد في العام التالي، للضغط على طهران بشأن محتجزي التنظيم، ومنعها من تسريب هوياتهم للإعلام وتمت الاستجابة بالفعل ورُفعت الكثير من القيود عنهم مقابل إطلاق سراح القنصل.
ولما أصر الإيرانيون على منع أسرة أسامة بن لادن من السفر، هرب ابنه سعد من مدينة يزد إلى باكستان حيث قُتل هناك بغارة أمريكية عام 2009، وفي نفس العام هربت ابنته إيمان إلى السفارة السعودية بطهران، مما أدى لتسريب أنباء وجودهم في البلاد إلى الإعلام وهو ما أقلق إيران بشدة، فسمحت بسفرهم مع عدد من الجهاديين وعائلاتهم على دفعات مقابل الإفراج عن القنصل التجاري الإيراني، الذي اختطفته القاعدة، في بيشاور بباكستان عام 2008.
وفي عام 2015، وصلت العلاقة إلى مستوى متقدم إذ تم إطلاق سراح كبار قادة الجماعة المتبقين مقابل دبلوماسي إيراني اختطفه القاعدة في اليمن عام 2013، فغادر أربعة منهم إلى سوريا منهم أبو الخير المصري، وأُطلِق سراح اثنين آخرين لكن لم يُسمح لهما بمغادرة إيران، وهما المصريان: محمد صلاح الدين المعروف بسيف العدل، وعبد الله أحمد عبد الله، المعروف بأبي محمد المصري اللذان شكلا مجلساً قيادياً ثلاثيًا مع أبو الخير، قبل أن يتم اغتيال الأخير في سوريا في فبراير/شباط 2017.
كما اغتال الموساد الإسرائيلي أبا محمد مع ابنته مريم، أرملة حمزة بن لادن في طهران، في السابع من أغسطس/ آب 2020، ورغم النفي الرسمي الإيراني إلا أن وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، أكد صحة الواقعة ووصف إيران بـ “أفغانستان الجديدة” وأنها “أكبر راع للإرهاب في العالم” في مؤتمر صحفي عقده في يناير/ كانون الثاني 2021، أوضح فيه أنه على عكس أفغانستان، عندما كانت القاعدة تختبئ في الجبال، فإنها تعمل في إيران تحت حماية النظام الذي يسمح لعناصرها بجمع الأموال والتواصل بحرية مع أتباعهم حول العالم.
وكشفت المراسلات المسربة للقاعدة أن بن لادن كان يرى تجنيب إيران أي هجمات
طالما أنها أصبحت الممر الرئيسي للمال والرجال بالنسبة للجماعة المطارَدة في العالم كله، وكانت تلك العلاقة محل احترام من تنظيم داعش، إذ أصدر المتحدث باسم التنظيم، أبو محمد العدناني، كلمة مسجلة بعنوان “عذراً أمير القاعدة” عام 2014 قال فيها إن تنظيمه لم يستهدف الأراضي الإيرانية استجابة لطلب القاعدة للحفاظ على مصالحها هناك، في الوقت الذي كان يستهدف فيه حلفاء طهران الشيعة في العراق.
ورغم التكتم الرسمي الإيراني على هذه العلاقة إلا أن بعض الاعترافات صدرت من قادة في الحرس الثوري، مثل اللواء سعيد قاسمي، الذي ألقى تصريحات عام 2019 حول تعاون نظامه مع القاعدة وتدريب عناصرها، وأيده في ذلك القيادي الحرسي، حسين الله كرم، مبينا تعاون الطرفين خلال حرب البوسنة والهرسك في التسعينات.
ومن قبلهم اعترف محمد جواد لاريجاني، الأمين السابق للجنة حقوق الإنسان في السلطة القضائية، في مقابلة مع التلفزيون الإيراني في 30 مايو/أيار 2018، بأن بلاده سهلت مرور عناصر القاعدة الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك، وكانت تحركاتهم تحت إشراف المخابرات الإيرانية خلال مرورهم بالبلاد، ولم تُختم جوازات سفرهم لتصعيب تعقبهم.
وقد لاقت هذه الاعترافات استهجانا واسعا في إيران لأنها تثبت تهمة حاول النظام نفيها مراراً، وتم تغريمه عشرات المليارات من الدولارات بسببها على يد القضاء الأمريكي، وكذلك المحكمة الأوروبية في لوكسمبورج، التي قضت بحجز مليار و 600 مليون دولار من أرصدة البنك المركزي الإيراني في أوروبا لتعويض ذوي ضحايا 11 سبتمبر أيضاً.
أما بخصوص علاقة طهران بحركة طالبان الأفغانية
فقد شهدت تحولات مثيرة إذ ناوأت الحركة منذ بداية نشأتها في التسعينات وساهمت بشكل كبير في دعم تحالف الشمال الذي تشكل بعد سيطرة الحركة على كابل عام 1996، وساندت الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 حتى نجح في إسقاط حكم طالبان، لكن شهدت العلاقة بين الطرفين بعد ذلك تعاونًا كبيرًا في محاربة العدو الأمريكي المشترك، إلى أن استعادت الحركة الأفغانية الحكم بعد عشرين عامًا من القتال وهو الحدث الذي لم يكن محببًا لطهران ودفعها لمعارضة الحركة من جديد ودعم مناوئيها.
وقد قدم نظام الملالي مساعدات ثمينة جدا لطالبان ساعدتها على استنزاف الأمريكيين وحلفائهم وجعل بقائهم على الحدود الشرقية لإيران باهظ الكُلفة، وكانت الأراضي الإيرانية حصناً وموئلا لجنود الحركة خلال صراعهم ضد القوات الأجنبية.
واستثمر نظام ولاية الفقيه علاقته بالحركة الأفغانية وأصبح حلقة الوصل بينها وبين وموسكو، وأثارت هذه العلاقة قلق الأمريكيين الذين اغتالوا الملا أختر محمد منصور، زعيم طالبان عام 2016 في باكستان، عقب عودته من لقاء مع مسؤولين روس في إيران.
ووصل التعاون إلى درجة غير مسبوقة عام 2018 حين انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي وصعدت من ضغوطها على طهران فاختارت الأخيرة تصعيد الضغوط الميدانية على قوات الناتو في أفغانستان ودرب الحرس الثوري عناصر طالبان في معسكراته على تنفيذ هجمات احترافية ضد الأمريكيين ووفر لهم السلاح والمتطلبات اللوجستية ودعم عملياتهم القتالية خاصة في مناطق الغرب الأفغاني المتاخمة لإيران، مما ساهم في تسريع انسحاب القوات الأجنبية، بما يتماشى مع استراتيجية طهران المعلنة لإخراج أمريكا من المنطقة المحيطة بها.
وقد اعتمدت السياسة الخارجية الإيرانية على اللعب بورقة الجماعات الجهادية لتحقيق الأهداف التي لا يمكنها تنفيذها بنفسها، فبعد أن دعمت إيران إسقاط نظامي طالبان وصدام حسين على أيدي الأمريكيين، تحول الهدف إلى إنهاك القوات الأجنبية ودفعها للمغادرة حتى تملأ طهران الفراغ الناجم عن رحيلها ضمن استراتيجية متعددة الجوانب، ففي أفغانستان سعت إلى تمكين حلفائها المحليين من اكتساب أكبر قدر من النفوذ والقوة خلال فترة الاحتلال وبعد عودة طالبان للحكم مارست ضغوطاً عليها لإشراك حلفائها هناك في السلطة.
وفي العراق ساهمت القاعدة في تكبيد قوات التحالف الدولي خسائر هائلة، كما أدت هجماتها ضد الشيعة إلى دفعهم إلى أحضان طهران بقوة طلبا للدعم بعد اشتعال نيران الحرب الطائفية عام 2006، في حين كان قادة التنظيم في ضيافة إيران التي تمكنت من اللعب على كل أطراف الصراع وإدارة المشهد بما يحفظ مصالحها.
وفي عام 2014 وفر تنظيم داعش لطهران فرصة ذهبية للتدخل العسكري المباشر في العراق عندما قررت حكومة نوري المالكي الموالية لها، سحب الجيش الوطني أمام تمدد الدواعش حتى سيطروا على ثلث العراق، فتدخل الحرس الثوري الإيراني بحجة محاربة الإرهاب وكون جيشاً تابعا في العراق مازال حتى اليوم يمثل قوة ضاربة في البلاد، تحت مسمى “الحشد الشعبي” يتلقى رواتبه وأسلحته من بغداد ويأخذ أوامره من طهران.
ورغم إعلان بغداد رسمياً القضاء على داعش نهاية عام 2017
إلا أن مجموعات من التنظيم ما زالت موجودة حتى اليوم في مناطق معروفة للجميع، يستمد الحشد الشعبي شرعيته من بقائها، وليس مصادفة أن يطل التنظيم برأسه بشكل مريب في المناطق السنية التي تضعها الميليشيات الموالية لطهران على قائمة الاستهداف وتطالب بتهجير سكانها كما هو الحال في محافظة ديالى المحاذية لإيران.
وشهد اليمن سيناريو مشابهاً إذ قدمت الحكومة اليمنية في أبريل/نيسان 2021 تقريرًا إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يستند إلى معلومات استخبارية ترصد علاقة جماعة الحوثي الموالية لطهران بتنظيمي القاعدة وداعش، إذ أفرج الحوثيون عن معظم الجهاديين المحتجزين لديهم وفق صفقات وتفاهمات بينهم، وتعاون الطرفان ميدانيًا واستخباراتيًا في مواجهة الحكومة اليمنية والتحالف العربي الذي تقوده الرياض.
وبذلك فإنه أصبح واضحاً بشكل لا لبس فيه أن دعم حركات الإرهاب الدولي يعد من الأدوات الرئيسية لتنفيذ السياسات الخارجية الإيرانية، وأن طهران توظف هذه الحركات لخوض المعارك بديلا عن الحرس الثوري والجيش الإيراني، ولذا فإنه من غير المتوقع أن يتخلى نظام الملالي بسهولة عن تلك المخالب المستعارة التي منحته قوة ونفوذا إقليميا طاغيا دون الاضطرار للتورط في مواجهات عسكرية مباشرة، خاصة في ظل حاجته المستمرة لاحتواء القوى المنافسة له في المنطقة، واستمرار حاجة تلك الجماعات الإرهابية إلى دولة تقدم لها الرعاية والدعم.