ولكن بطرس لم يصبح “عظيمًا” بفضل النجاح العسكري فقط؛ بل أدخل إصلاحات التحديث، وبنى مدينة سانت بطرسبرغ لتكون “نافذة على أوروبا”.
لقد سعى بطرس لاكتساب المزيد من القوة والأراضي، لكنه في نفس الوقت أراد أن تكون بلاده متقدمة وتقدمية بقدر أكبر.
ومما يؤسف له أن بوتين، الذي يرى نفسه قيصرًا بدون تاج، يحقق عكس مَثله الأعلى من خلال عزل روسيا وتحويلها إلى دولة منبوذة.
صحيح أن سياسة الأرض المحروقة التي ينتهجها الجيش الروسي في أوكرانيا- في انتهاك صارخ لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي- تعكس بصورة مباشرة سياسة بطرس خلال حربه مع ملك السويد، تشارلز الثاني عشر.
ولكن قمع بوتين لحرية الفكر والتعبير في روسيا يمثل ولادة جديدة مخيفة للأساليب الشمولية التي ميزت الاتحاد السوفيتي.
إن الحرب تدمر أوكرانيا، وتُحدث اضطرابا في أسواق الطاقة والغذاء العالمية، وتزعزع استقرار البلدان في جميع أنحاء العالم. لقد أوصلنا بوتين إلى نقطة تحول تاريخية؛ فهل سنحاول تحسين نظامنا العالمي، أم سنرجع بدلاً من ذلك إلى الوراء، لنعيش حقبة الزعماء المغرورين الذين اتبعوا أسلوب العنف والسخرية؟ إن التحريفية على طريقة بوتين، التي يركز فيها بِهَوس على تصحيح الأخطاء التي حدثت منذ فترة طويلة، تشكل تهديدًا واضحًا لكل دولة.
وينتمي بوتين ورفاقه الاستبداديون إلى عالم متأخر وليس متقدم. ففي نظامهم يزداد الفقر، بل حتى المجاعة؛ لأن أداء الاقتصادات تصبح ضعيفة عندما تلبس القوة لباس الحق. ويتجلى الاضطهاد الجماعي في سعي جنوني وراء العظمة مما يقوض الاستقرار العالمي.
إن الاتهامات الغريبة التي وجهتها روسيا لأوكرانيا لكي تبرر غزوها لها في 24 شباط/ فبراير، ليست سوى تعبير بوتين بصيغة أحدث وأكثر تطرفا عن رفضه قبول انهيار الاتحاد السوفيتي.
فبدلاً من اغتنام الفرصة لتحويل روسيا إلى دولة قومية حرة وديمقراطية وطبيعية- وهي عملية أكملتها العديد من دول ما بعد الإمبراطورية بنجاح- كرّس بوتين طاقاته لشن هجمات انتقامية تهدف إلى استعادة امبراطورية الدولة المفقودة.
لهذا السبب، يقلقنا أن نسمع، على سبيل المثال، نائبًا في مجلس الدوما الروسي وهو يقترح أن يعلن أن اعتراف الاتحاد السوفيتي عام 1991 باستقلال “ليتوانيا” باطل ولاغ. وفي أعقاب حرب أوكرانيا، لا يمكن لأحد أن يأخذ مثل هذه التهديدات على محمل الجد.
إن موقف روسيا العدواني من الأراضي التي احتلتها أو ضمتها ذات يوم يشكل تهديدًا حقيقيًا للمحيط الجغرافي لكل دولة. وفي هذا الصدد، تشكل الأنظمة القيصرية والسوفييتية، وتلك التي يقودها بوتين في روسيا سلسلة متصلة.
وبالإضافة إلى مطالبات إقليمية مباشرة، هناك مطالب بشأن مجال النفوذ، الذي يعني في الواقع مجال السيطرة. إذ من وجهة نظر بوتين التي أعلن عنها مرارًا وتكرارًا، تشعر روسيا بتهديد كبير يتمثل في احتمال تعرضها لعدوان من الخارج، خاصة من الغرب، إلى درجة أنها أصبحت ترى أنه من الضروري أن تكون محاطة بحلقة من الدول التابعة.
وتتعرض أوكرانيا للهجوم لأنها رفضت بتحدٍ تبعيتها- وفعلت ذلك دون حماية من حلف شمال الأطلسي أو الاتحاد الأوروبي. وعلى النقيض من ذلك، تنتمي جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة وهي: لاتفيا، وليتوانيا، وإستونيا، إلى كلا المنظمتين. ولكن روسيا وضعت ما أسميه بيض الوقواق في جميع البلدان التي تشكل جزءًا من حلقة التوابع المفترضة. والهدف منها هو تحويلها إلى عوامل الاحتكاك الداخلي أو إلى ما هو أفضل من وجهة نظر الكرملين: صراعات مجمدة لا تحل سلميًا.
لقد رأينا هذا من قبل، من خلال استراتيجية الاتحاد السوفيتي طويلة المدى، التي كانت تقوم على مبدأ احتلال أكبر عدد ممكن من الأراضي المحيطة بالنواة الروسية المركزية.
إذ في كل واحدة من هذه الأراضي، كان القادة السوفييت يزرعون قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في لحظة كانت تحَدد في الوقت المناسب، أو يمكن تشجيعها على الانفجار من خلال خلق العداء، أو النزاعات داخل الدول المجاورة وفيما بينها.
إن استمرار بوتين في هذه الاستراتيجية أكبر سبب في القوس الحالي للصراعات المجمدة خارج حدود روسيا.
فعلى سبيل المثال، ورثت “مولدوفا” نظريًا منطقة “ترانسنيستريا” الصناعية والروسية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ولجميع الأغراض العملية، سرعان ما أصبحت هذه المنطقة معزلًا تحكمه روسيا.
كذلك، حرم الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 هذا البلد من خُمس أراضيها تقريبا، وأصبحت المناطق الانفصالية الآن تحت سيطرة الكرملين.
وفي أوكرانيا، غزت روسيا شبه جزيرة القرم وضمتها في عام 2014، وسيطرت قواتها فعليًا على معظم مناطق “دونيتسك” و”لوهانسك” بشرق أوكرانيا. وفقط بعد حرب عام 2020 التي دارت رحاها في منطقة “ناغورنو-كاراباخ”،
استعادت أذربيجان بصورة شرعية الأراضي التي احتلتها “أرمينيا” لعقود بدعم من روسيا.
إن النوايا الحسنة هي أساس التعايش المدني بين المناطق والبلدان والأفراد. إذ بعد فترة وجيزة من انتخابي رئيسة للاتفيا في عام 1999، تلقيت رسائل منفصلة من فتاة وأخيها ورثا منزلًا من والديهما بعد إعادة الممتلكات.
ولم يتمكنا من الاتفاق على كيفية تقسيم ميراثهما. وقال كل منهما أنه لا يمكنهما العيش معًا تحت سقف واحد. وهدد الأخ غاضبا بقطع المنزل الخشبي إلى نصفين، وبكت الأخت من استياءها من الطريقة التي ستدمر بها الممتلكات.
وأحياناً، حتى الأشخاص داخل نفس العائلة لا يمكنهم قبول العيش معًا، لذلك لا ينبغي أن نتفاجأ عندما تحدث النزاعات على نطاق أوسع. ولكن عندما يحدث ذلك، يجب ألا يُسمح لأي زعيم بقطع المنزل إلى نصفين.
ترجمة: نعيمة أبروش Translated by Naaima Abarouch
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن