مليون نوع في خطر
تساهم الأنواع البرّية (النبات والحيوان) في إدامة حياة المليارات من البشر ورفاهيتهم مثل الغذاء، والطاقة، المواد، الطب، الترفيه، الإلهام، وما إلى ذلك. يتم استخدام ما يقرب من 50000 نوع بري عبر ممارسات مختلفة، بما في ذلك أكثر من 10000 نوع برّي يتم حصادها مباشرة من أجل غذاء الإنسان. انها مساهمة كبيرة وجوهرية تقدمها الأنظمة البيئية، انما أزمة التنوع الأحيائي المتسارعة عالمياً، مع خطر الانقراض على وجود أكثر من مليون نوع من النبات والحيوان، تهدد هذه المساهمات التي توفرها الأنظمة الأيكولوجية للبشرية. وتعود أسباب الأزمة بحسب العلماء الى النشاط البشري المفرط في استخدام الأنواع البرّية مما يعرّضها للانقراض أو يقلل من مساهمتها في إدامة النظم البيئية، حياتنا بطبيعة الحال.
إن سكان الأرياف في البلدان النامية بحسب تقييم جديد للمنبر الحكومي الدولي للعلوم والسياسات في مجال التنوع البيولوجي وخدمات النظم الإيكولوجية (IPBES) هم الأكثر لجوءً إلى الممارسات غير المستدامة، اذ يجبرهم الافتقار إلى البدائل الغذائية، على المزيد من استغلال الأنواع البرية المهددة بالفعل. “ما يقارب 70٪ من فقراء العالم يعتمدون بشكل مباشر على الأحياء البرية. ويعد الفطر والطحالب والنباتات البرية مصادر للغذاء والدخل لواحد من كل خمسة أشخاص، فيما يعتمد مليارين وأربعمئة ألف شخص على الخشب كوقود للطهي؛ ويعمل ما يقارب 120 مليون صياد تقليدي على نطاق صغير”، هذا ما تقوله الباحثة الأمريكية في الجغرافيا مارلا إيمري، وهي كاتبة مشاركة في اعداد التقييم المذكور.
ما يقارب 70٪ من فقراء العالم يعتمدون بشكل مباشر على الأحياء البرية
مع ذلك، لا تُعد بلدان الجنوب -الفقيرة- هي الوحيدة التي تستخدم الأنواع البرية بكثرة، ذلك ان استخدام الأنواع البرّية وأنواعها من الأسماك التي نتناولها الى الأدوية ومستحضرات التجميل والديكور والهوايات، يعد أكثر انتشاراً في البلدان المتقدمة مما يدركه معظم الناس.
ويقدم هذا التقييم الأحدث الذي نشر بتاريخ 8 تموز من هذا العام (2022) بشأن الاستخدام المستدام للأحياء البرّية بحسب الباحثين، نظرة ثاقبة وتحليلات وأدوات تساهم في استخدام أكثر استدامة للنباتات والحيوانات والفطريات والطحالب في جميع أنحاء العالم.
الاستغلال المفرط
يعد استخدام الحياة البرية مدخولاً مهماً لملايين الأشخاص حول العالم. تشكل أنواع الأشجار البرية ثلثي صناعة الأخشاب المستديرة العالمية؛ تجارة الأعشاب البحرية والفطر والنباتات البرية تعادل مليارات الدولارات؛ حتى الأنشطة غير الاستخراجية المتعلقة بالحياة البرية، تحقق أرباحاً كبيرة. وقد استقطبت المناطق المحمية في جميع أنحاء العالم، قبل تفشي وباء كورونا، 8 مليار سائح لمراقبة الأنواع البرّية، وكانت أرباحها 600 مليار دولار أمريكي كل عام.
ولكن هل يسير كل ذلك بسلام، وهل يدوم الأمر على نحو ما اعتادت عليه البشرية منذ آلاف السنين؟ وفقاً لتقرير IPBES، زاد استغلال الأنواع البرّية على مدى 20 السنة الماضية، في نطاق ممارسات مثل صيد الأسماك، قطف، استكشاف الغابات، جمع الحيوانات البرية (بما في ذلك الصيد) والممارسات غير الاستخراجية مثل السياحة والمراقبة. ويوثق كُتاب التقييم في السياق ذاته، حصول تطور في استدامة البعض من الممارسات، لا سيما فيما يتعلق بالأغراض الطبية وقطع الأشجار التي تُعد مصدراً هاماً للمواد الخام والطاقة.
ويقول الكاتب المشارك في التقييم جان مارك فرومنتين، بهذا الشأن “وفقًا للتقديرات العالمية الأخيرة، فإن حوالي 34٪ من مخزون الأسماك البرية البحرية في العالم تتعرض للاستغلال المفرط و66٪ يتم صيدها عند مستويات مستدامة بيولوجياً”. وهناك اختلافات محلية وسياقية كبيرة حيث شهدت البلدان التي تتمتع بإدارة منظمة لمصايد الأسماك زيادة في وفرة مخزوناتها، بينما حالة المخزونات في البلدان والمناطق التي لا تكون فيها تدابير إدارة مصايد الأسماك دقيقة، غير معروفة جيداً ويشير الاعتقاد العام الى ان الوفرة ليست بمستويات من شأنها زيادة الإنتاج الغذائي المستدام.
حوالي 34٪ من مخزون الأسماك البرية البحرية في العالم تتعرض للاستغلال المفرط و66٪ يتم صيدها عند مستويات مستدامة بيولوجياً
ان قطع الأشجار غير المستدام يضر ببقاء حوالي 12٪ من أنواع الأشجار البرية، كما يعتبر قطف غير المستدام أحد التهديدات الرئيسية للعديد من العائلات النباتية، بما في ذلك الصبار، والأشجار السيكاسية، وبساتين الفاكهة، بينما يساهم الصيد المفرط في انخفاض 1341 نوعاً من الثدييات البرية الكبيرة التي ترتبط معدلات تكاثرها المنخفضة أيضاً بضغط الصيد.
يمكن ان تؤثر عوامل مثل التغيرات في المناظر الطبيعية، المناظر البحرية، تغير المناخ، التلوث والأنواع الغريبة الغازية على وفرة الأحياء البرية وتوزيعها، فضلاً عن الإجهاد والمصاعب جراء استخدام المجتمعات البشرية لها، مثل التجارة العالمية بالأنواع البرية بشكل كبير من حيث الحجم والقيمة وشبكات التجارة على مدى العقود الأربعة الماضية. تالياً، يعد الاستغلال المفرط هو أحد التهديدات الرئيسية لبقاء العديد من الأنواع البرية والمائية على قيد الحياة، ومعالجة أسباب الاستخدام غير المستدام، حيثما أمكن، كفيلة بإيصال الفائدة للأحياء البرّية والمجتمعات التي تعتمدها لإدامة الحياة.
وعلى رغم ان التجارة بالأحياء البرية توفر دخلاً هاماً للبلدان المصدرة، ودخلًا أعلى للحاصدين، كما يمكنها تنويع مصادر الإمداد للمساعدة في إعادة توجيه الضغط على الأنواع التي يتم الإفراط في حصادها، إلا انها تساهم أيضاً في استغلال الأنواع البرية بعيداً عن مكانها الأصلي. وهذا الاستخدام الذي يرتبط في جوانب كثيرة منه بالتجارة الجائرة ان صحت العبارة، قد يعرض التنوع البيولوجي للمزيد من الضغط والأخطار. ويخلص التقرير بهذا الخصوص، إلى أنه في حالة عدم وجود تنظيم فعال على طول سلاسل التوريد بأكملها، من المحلية إلى العالمية، فإن التجارة العالمية بالأنواع البرية تؤدي في بعض الأحيان الى انهيار بعض المجموعات البرية. وتحتل التجارة الجائرة بالأنواع، والتي يُقدر أنها تدر ما يصل إلى 199 مليار دولار سنويًا، المرتبة الثالثة بين الأنشطة التجارية غير القانونية.
الشعوب الأصلية والطبيعة
ويحتل استخدام الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية للأنواع البرية والعديد من المعارف والممارسات والمعتقدات المرتبطة، حيزاً مهماً في هذا التقييم الدولي لحالة التنوع الأحيائي والأنواع البرّية. وتُعد الإدارة الجيدة للتنوع البيولوجي من قبل الشعوب الأصلية جزء لا يتجزأ في الغالب عن الممارسات المحلية والروحانية والمعرفة بحسب الباحثة الأمريكية مارلا إيمري. والاستخدام المستدام للأنواع البرية برأيها هو، “أمرا أساسي لهوية ووجود العديد من الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية. فهي رغم تنوع ممارساتها وثقافاتها، تمتلك قيم مشتركة، بما في ذلك الالتزام بمعاملة الطبيعة باحترام، وامتلاك حس المعاملة بالمثل، وتجنب الهدر، وإدارة المحاصيل وضمان التوزيع العادل والمنصف لمساهمات الأحياء البرية في رفاهية المجتمعات.
عالمياً، تكون إزالة الغابات بشكل عام، أقل في أراضي السكان الأصليين، لا سيما عندما يكون هناك ضمان للحيازة، واستمرارية المعرفة واللغات، وسبل العيش البديلة. وبما أن معظم الأطر الوطنية والاتفاقيات الدولية تؤكد إلى حد كبير على الاعتبارات البيئية، الاقتصادية، الاجتماعية وقضايا الحوكمة، وتولي القليل من الاهتمام بالسياقات الثقافية، فإن التعاون بين العلماء والشعوب الأصلية من أجل التعلم المتبادل وتعزيز الاستخدام المستدام للأحياء البرية، تأخذ مساحة ملحوظة هذا التقييم الدولي لحالة الأنواع البرّية.
ويحدد التقييم التدابير المرتبطة بأي ممارسة قد تسهم ايجاباً في مواجهة التحديات التي تم التطرق لها. على سبيل المثال، تصحيح أوجه القصور في صيد الأسماك والحد من الصيد الجائر، إزالة الإعانات المالية الضارة وتبديلها بدعم الصيد الحرفي والتكيف مع التغيرات في إنتاجية المحيطات جراء تغير المناخ، إضافة الى بناء مؤسسات فعالة وسبّاقة عابرة للحدود.
فيما خص قطع الأشجار، يشير التقييم الى إدارة الغابات والابتكارات التكنولوجية للحد من نفايات المنتجات الخشبية، وكذلك المبادرات الاقتصادية والسياسية التي تعترف بحقوق الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية، بما في ذلك حيازة الأراضي.
ان غالبية السيناريوهات المستقبلية التي تتيح الاستخدام المستدام للأنواع البرية وتشترك في التغييرات التحويلية بخصائص مشتركة، تركز على تعددية القيم، التوزيع العادل للتكاليف والفوائد، القيم الاجتماعية، المعايير والتفضيلات الثقافية، حوكمة فعالة للأنظمة. كل ذلك في إطار العلاقة بين الناس والطبيعة، والتي تقتضي مع تغير العالم المستمر، مفاوضات مستمرة وإدارة تكيفية، ناهيك برؤية مشتركة للاستخدام المستدام والتغيير التحويلي.
وبالنسبة للأمينة التنفيذية لمنبر IPBES (آن لاريجودري)، فلا تخرج أهداف الاستخدام المستدام للأنواع البرّية عن نطاقات أهداف التنمية المستدامة المتعلقة بالقضاء على الفقر والجوع وتوفير الصحة والرفاهية والتعليم والمساواة بين الجنسين ومياه الشرب والصرف الصحي والطاقة بتكلفة معقولة للجميع.