شكلت معركة الأيام الثلاثة بين حركة الجهاد الإسلامي في غزة وإسرائيل علامة فارقة في مسيرة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وقد تكون سابقة خطيرة في هذا الصراع وتؤسس لما هو أكثر خطورة. هذا الواقع الجديد إذا ما تجسد سيدفع إسرائيل للتعامل مع حماس بصفتها كيانا مستقلا يمكنه من الوصول معها إلى تسوية بشأن قطاع غزة.
منذ بداية الاشتباك الصاروخي الذي نشأ عقب اغتيال أحد قادة الجهاد في غزة اطلق قائد الحركة الذي كان يزور طهران صيحة جذابة بعنوان: وحدة الساحات. وقصد منها تحفيز حركة حماس للانضمام إلى الجهاد في معركة الصواريخ. ومع التحفيز تحمل هذه الصيحة وبصورة مبطنة تلميحا إلى أن الجهاد باتت وحدها في المعركة إذ لم يستجب أحد من الفصائل الفلسطينية لهذه الصيحة وبقيت صواريخهم في مخابئها.
نتيجة لذلك جاء انتقاد زعيم الجهاد المبطن لحركة حماس خلال مؤتمره الصحفي في العاصمة الإيرانية وكانت عباراته واضحة تماما بقوله: اليوم يوم تاريخي فإما أن نعمل موحدين أو أننا سندفع ثمن انقساماتنا. وعندما تصدر هذه العبارة من زعيم الجهاد في طهران فهي خطيرة جدا وتحمل عدة وجوه من التأويل. فدعوته إلى توحيد الساحات والوحدة النضالية واضحة ومفهومة أما غير المفهوم فهو عبارته المتعلقة بدفع ثمن الانقسامات. فهل تعني أن الطرفين الجهاد وحماس سيخسران لعدم توحدهما؟ أم أن عبارته تحمل تهديدا لحركة حماس قد يعني التمرد عليها والاشتباك معها في غزة ثم توريطها في اشتباك كبير مع إسرائيل؟
خلال معركة الأيام الثلاثة مارست حماس حيادا إيجابيا بالإحجام عن المشاركة لشعورها بالمسؤولية تجاه سكان غزة الذين عانوا كثيرا من أثار المعارك القصيرة لكن المدمرة. ليس الشعور بالمسؤولية فقط هو الذي منع مشاركة حماس فهناك بالتأكيد أسباب موضوعية أخرى وذات أهمية.
يعرف الجميع أن حماس والجهاد تتنافسان على حكم غزة والسيطرة عليها في ظل خلافات سياسية وأيديولوجية واسعة بين الطرفين مع أن حركة الجهاد لا تظهر نوايا واضحة في هذا الشأن. أما حركة حماس فلديها العديد من المكتسبات التي ترغب بالمحافظة عليها وحمايتها وخصوصا في ميدان البناء وإعادة الأعمار. أما في الجانب السياسي فإن حركة حماس تنتظر الاعتراف الأميركي بها طرفا رئيسيا في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وبناء على ذلك تجتهد حماس في ضبط النفس والسيطرة على مقاتليها والنأي بنفسها عن التورط في مغامرات غير محسوبة وتتشدد إزاء مطلقي الصواريخ وتمسك بكل تفاصيل الأمن في القطاع.
موقف حماس الحيادي نابع من حقيقة خوفها بخسارة مكاسبها فيما أنجزته في القطاع منذ انتهاء مواجهة العام الماضي. وبينما كان وفد حركة الجهاد في القاهرة يبحث إمكانية الهدنة ووقف العملية العسكرية الإسرائيلية كان وفد حماس يتفاوض مع مصر بخصوص مشروعات إعادة الإعمار. وقد لاحظ كثيرون أن سكان القطاع كانوا راضين عن موقف حماس التي لم تستمع لدعوات المشاركة في العملية العسكرية وأبدت مرونة في ضبط النفس واهتماما بمصلحة مواطنيها. فهي لا تريد تحويل المواجهات البسيطة إلى مواجهة شاملة لا تقدر على تحمل نتائجها وفي الوقت نفسه تريد حماية القطاع من ضحايا بشرية وخسائر في البنية التحتية لا تستطيع تبريرها.
هل كانت هناك مصالح مشتركة بين حماس و إسرائيل أجبرت حماس على الحياد؟ عملت إسرائيل في المواجهة الأخيرة كل ما تستطيع لكي تبقى حركة حماس بعيدة عن المشاركة في العملية العسكرية. وربما وصلت حماس رسائل عربية بضرورة الحياد لأن الجهاد حركة محسوبة على إيران والعرب لا يريدون لها أن تلعب أي دور في الصراع. وقد تكون إسرائيل قد سربت تهديدا خفيا للحركة بأن عليها عدم التدخل والا تمت معاملتها مثلما تعاملت إسرائيل مع الجهاد.
تسعى حماس من خلال هذه التكتيكات إلى الوصول إلى هدفها الأكبر وهو قيادة الشعب الفلسطيني بكل فئاته كما ترغب بأن تكون هي الشريك الوحيد للتفاوض مع إسرائيل لتكون بديلا عن حركة فتح وعن السلطة الوطنية الفلسطينية. وتقوم حماس بترتيبات للتفاوض بشأن الأسرى في السجون الإسرائيلية وبترتيبات لأجل زيادة أعداد العمال الفلسطينيين من القطاع الذين يسمح لهم بالعمل في إسرائيل وعددهم الآن يصل إلى عشرين ألف عامل.
كما يمكن تفسير موقف حماس الحيادي أيضا من خلال معرفة ما يدور وراء الكواليس من حديث عن مشروع حمساوي مع إسرائيل بوساطة مصرية بخصوص هدنة طويلة الأمد وإعادة إعمار القطاع وتدشين ميناء بحري ومشروعات اقتصادية لتخفيف معاناة الفلسطينيين وكل هذا يشكل عوامل مساعدة لحركة حماس لمواصلة حكم غزة وحدها.
لقد يئس الغزيون من الحروب والدمار. ولا شك أن حركة حماس الآن لا تريد أي مواجهة بينها وبين إسرائيل بل تريد تدعيم شؤونها الاقتصادية والعمرانية في القطاع لتحسين حياة الناس واكتساب قلوبهم وعقولهم وإحكام القبضة على القطاع واحتساب المزيد من النقاط في مواجهة السلطة الوطنية. ويرى خبراء أن موقف حماس في المواجهة الأخيرة لم يكن مجرد ضبط نفس بل أيضا خيارا عقلانيا بانتظار تحسن الظروف وزيادة الحوافز الاقتصادية لصالحها وهذا ما حدث بالضبط.
واذا ما واصلت حماس استراتيجية الناي بنفسها عن حركة الجهاد والابتعاد عن تحريضات إيران فإن إسرائيل ستجد فيها الشريك المناسب وسوف تتوجه إليها في التفاوض والتفاهم ليس فقط في شؤون غزة ولكن أيضا في شؤون باقي الأراضي المحتلة. فهناك علاقة براغماتية بين حماس وإسرائيل.
وسيكون الرد الإسرائيلي عبر تخفيف بعض القيود عن القطاع وزيادة في تصاريح العمال الفلسطينيين الذين يعبرون إلى إسرائيل للعمل يوميا وتسهيل دخول المواد الغذائية ليشعر سكان القطاع بالفرق مع أن هذا قد يعمق الخلاف بين حماس والجهاد.
قد تعمل إسرائيل على تحريض حماس ضد حركة الجهاد لإقصائها كليا عن الساحة والسيطرة عليها ولجمها وربما تصفيتها وعند ذلك تتوصل إسرائيل وحماس إلى نوع من التهدئة الشاملة والدائمة التي قد تغير الظروف تغييرا جذريا. وقد يدفع هذا إسرائيل لتكتشف أنها مضطرة للتعامل مع حماس وربما تشجيعها على التفرد بالسلطة في غزة وإخضاع باقي الفصائل ومعروف عن حماس أنها لا تقبل أي شريك أو منافس لها.
لكن إذا أرادت حماس أن تستجيب للطلب الإسرائيلي والتفرد بحكم غزة وضبط الأمن والسلاح فيها وإخضاع الجهاد ونزع سلاحها فما هو الثمن الي ستطلبه حماس والى مدى إسرائيل مستعدة لتقديم هذا الثمن؟
تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولاتعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن