صندوق من البارود
تظهر لنا صور وأخبار نشوب الحرائق في غابات الجزائر والمغرب حجم الأضرار الناجمة عن تغير المناخ بشرياً واقتصادياً وبيئياً، ويمكن القول بأن مشهد الحرائق في دول المغرب العربي يشكل الصورة الأوضح عما يتعرض له كوكبنا من تغير المناخ وتسارع آثاره الدراماتيكية على المجتمعات.
كانت أوضاع الطقس يوم (17/8/2022) بحسب المعلومات المتوفرة، عادية في محافظة سوق الأهراس في شمال الجزائر، انما تغير كل شيء حين لامست درجات الحرارة نصف الغليان مع هبوب رياح قوية بلغت سرعتها 100 كيلومتر في الساعة، ما شكل شرارة نشوب حريق هائل وأودى بحياة ما يقارب 40 شخص ومئتي جريح وفق بيانات جزائرية محلية.
ولا يُعرف الى الآن حجم خسارة الأنواع (النبات والحيوان)، ناهيك بخسائر هائلة في الاقتصاد والنظم البيئية.
ولكن هل نشبت الحرائق في برهة عين وأدت الى حصول ما حصل وإلحاق كل هذه الأضرار بالبشر والبيئة؟ أغلب الظن كلا، كانت هناك حرائق في محافظة الطارف الساحلية قرب الحدود مع تونس قبل التاريخ المذكور وتجاوزت أعدادها 30 حريقاً، انما تعاملت معها السلطات المحلية ببطئ، ظناً منها بأن الأمور تحت السيطرة بحسب تصريحات صحفية لرئيس مكتب الحماية والوقاية من حرائق الغابات رشيدا بن عبدالله.
وحدثت في عموم البلاد أكثر من 150 حالة حريق خلال الصيف الحالي وتسببت بحرق أكثر من 2500 هكتار من الغابات والأراضي الحرجية.
بعد السيطرة على الحرائق بحسب السلطات في الجزائر، أعلنت وزارة العدل عن فتح تحقيقات قضائية ضد مجهولين في الحرائق المندلعة في البلاد.
ان نمت مثل هذه الاستجابة عن شيء فإنما تنم عما يمكن تسميته بإدارة ما بعد الكارثة ولا تغير مما حدث، ذلك انها بالإضافة الى إدارة سيئة، تعبر أيضاً عن تأخر الحكومة في الاستجابة للسيناريوهات المتوقعة بشأن تغير المناخ الذي حولت دول شمال أفريقيا بحسب وصف صحيفة الغارديان البريطانية الى صندوق من البارود.
أعشاش حرارية طائرة
نحن نشاهد منذ سنوات دمار بيئي شامل تسببه نشوب حرائق هائلة في غابات الأمازون، استراليا، كاليفورنيا، وعلى ضفتي حوض المتوسط.
ويتوقع ان يزداد الأمر سوءاً بحلول نهاية القرن الحالي وتصل نسبة الحرائق الى 50٪ مقارنة مع الحرائق الحالية التي تسبب فقدان مساحات غابوية سنوياً تقدر بمساحة دولة مثل نمسا.
وكانت الغابات بعد نهاية العصر الجليدي الكبير والأخير قبل 10000 عام بفترة وجيزة، تغطي 57٪ من الأراضي الصالحة للسكن في جميع أنحاء العالم.
وفي آلاف السنين التي تلت تلك المرحلة، أدت الزراعة المكثفة الى فقدان ثلث الغابات العالمية؛ وهي مساحة تبلغ ضعف مساحة الولايات المتحدة بحسب بيانات تجمعها وتنشرها OORWORLDINDATA، ولكن المثير للانتباه هو أن نصف هذا الفقدان حدث في القرن العشرين وحده. وها نحن نرى تسارع وتيرة الحرائق في قرننا الحالي.
إذا اقتصرت الأسباب في الماضي على الزراعة والرعي والتكاثر السكاني، أصبح ارتفاع درجات الحرارة جراء الانبعاثات اليوم، سبباً اضافياً تفوق خطورته بقية الأسباب.
فمنذ أواسط القرن التاسع عشر، ارتفعت درجات حرارة سطح الأرض بنحو 1.0 درجة مئوية، وكان لهذا التزايد في درجات الحرارة السطحية، تأثيرات بعيدة المدى على مناخ كوكبنا في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، حيث السخونة إلى تناقص تساقط الثلوج، ووصول مبكر للربيع، وفي النهاية مواسم حرائق أطول وأكثر جفافاً.
ولكن كيف يسبب تغير المناخ هذا التدفق الهائل من حرائق الغابات حول العالم، وما هي الآليات المناخية الطبيعية والبشرية التي تكثر الحرائق وتوسع نطاقاتها؟
الجواب التقليدي هو ان كل من الغلاف الجوي والغطاء النباتي وآليات الاشتعال يشكل شروط الحرائق الرئيسية، ولكن تغير المناخ أحدث آليات داخلية لهذه الشروط المعروفة تاريخياً وخلق شكل من أشكال إعادة تدوير الحرائق.
العامل الأول: ان الغلاف الجوي يلعب دوراً كبيراً في مدى حساسية المنطقة لحرائق الغابات. مثلاً تزيد الرياح من إمداد الأكسجين أثناء اشتعال الغابات وتنقل الجمر إلى مواقع جديدة.
وهذا ما تمت ملاحظته خلال اندلاع الحريق الأول في محافظة سوق الأهراس في الجزائر حيث اتسعت دائرته مع هبوب رياح قوية.
وكانت هذه النقطة غائبة في استجابة السلطات المحلية الجزائرية، على رغم انها على دراية كافية بما يحصل للغابات من الجفاف وتكاثر الأشجار الميتة جراء العطش مما يزيد من الوقود الجاهزة للاشتعال.
العامل الثاني: لا تلعب كثافة الغطاء النباتي وحدها الدور الأكبر في الحرائق وما اذا كانت الغابات معرضة للاشتعال أكثر من غيرها، بل “الفجوة الجافة” التي تركتها سنوات الجفاف التي امتصت حتى رطوبة تربة الغابات.
ان الأشجار حين تتعرض للعطش تتوقف عن تغذية الأغصان العليا، مما يؤدي الى سقوط أوراقها أولا ومن ثم تيبسها.
ومن شأن ذلك توفير المزيد من الوقود للحرائق المحتملة، ذلك انها، أي الأوراق الجافة الساقطة، تشكل أعشاش حرارية قابلة للاشتعال وبإمكانها الانتقال مع اتجاهات الرياح.
العامل الثالث: بما ان غابات الجزء الجنوبي من حوض المتوسط في كل من المغرب والجزائر لم تشهد العواصف الرعدية والنشاط البركاني، من المحتمل ان يكون السبب الرئيسي للحرائق هو النشاط البشري، أو أعشاش حرارية داخلية في ظل نصف الغليان وتربة جافة مغطاة بالأوراق والأشجار الميتة.
المزيد من الكاربون
لعب حرائق الغابات تاريخياً دوراً ملحوظاً في حدوث تغير المناخ، كما يلعب هذا الأخير دوراً كبيراً في اندلاع الحرائق الآن.
فكل حريق يولّد ملايين الأطنان من الكاربون الى الغلاف الجوي ويترك بصمته على الاحترار الكوكبي. في عام 2021 وحده فقط، أطلقت حرائق الغابات في جميع أنحاء العالم ما يقدر 1.76 مليار طن من الكربون في الغلاف الجوي، وهو ما يمثل أكثر من ضعف الانبعاثات السنوية في بلد صناعي مثل ألمانيا بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي.
نحن هنا أمام عملية إعادة تدوير حرارية حيث تُولّد الحرائق المزيد من الكربون في غلافنا الجوي وتساهم في ارتفاع درجات حرارة السطح. بعبارة أدق المزيد من الكربون يولّد المزيد من حرائق الغابات، والمزيد من حرائق الغابات تولّد المزيد من الكربون، الأمر الذي يؤدي الى ارتفاع وتيرة الأحداث المناخية المتطرفة والشاذة على الأرض.
مع ذلك ليست حرائق الغابات وحيدة من ناحية تزايد اندلاعها وشدة تأثيرها جراء تغير المناخ، فقد أصبحت حالات الجفاف وموجات الحر والفيضانات أكثر شيوعاً في جميع أنحاء العالم هذا العام. وقد لاحظنا تنوع الآثار المناخية في وقت واحد وفي منطقة واحدة حيث عانت السودان، شمال شرق القارة السمراء، من فيضانات قوية أدت الى تدمير 90٪ من البنى التحتية في العاصمة خرطوم، بينما قضت الحرائق على الأخضر واليابس في كل من الجزائر والمغرب شمال القارة.
وشهدت أوروبا في ذات الوقت، أعلى مستويات درجات الحرارة على الإطلاق، مما أدى إلى تناقص المياه في الأنهر الى أدنى المستويات. وأثر كل ذلك على البنية التحتية، التجارة وحياة الناس. ويحذر الخبراء من أن هذا الواقع البيئي قد يصبح الوضع الطبيعي الجديد ويتعين على الحكومات وصانعي السياسات والمؤسسات الدولية والشركات أن يرسموا سياسات جديدة من شأنها ضمان استمرار الحياة ومستقبل الأجيال القادمة.
حوض المتوسط: نقطة ساخنة
ان عودة سريعة الى حرائق العام الماضي (صيف 2021) والتي أودت بحياة ما يقارب 90 شخصا وتدمير 100 ألف هكتار من الغابات والأراضي الزراعية والحرجية في شمال الجزائر، تثبت جهل الحكومات بالنتائج الكارثية المترتبة عن أزمة المناخ العالمية. وذلك على رغم بيانات علمية واضحة بشأن حوض البحر الأبيض المتوسط يوفرها المنبر الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ في تقاريره المتعاقبة في السنوات الأخيرة.
وفي أحدث تقرير له لهذا العام (2022) خصص المنبر مساحة كبيرة لحوض البحر الأبيض المتوسط، إذ تشير توقعات التغير المناخي بدرجة عالية من الاتساق إلى أن المنطقة ستشهد درجات حرارة أعلى، وأمطاراً أقل، واستمرار ارتفاع مستوى سطح البحر خلال العقود القادمة.
وبما أن صيف المنطقة جاف نسبياً بالفعل، فمن المحتمل أن تسبب هذه العوامل مجتمعة في حدوث ظروف أكثر جفافاً وسخونة إلى حد كبير، بالإضافة إلى الفيضانات الساحلية، مما يؤثر بشكل مباشر على المجتمعات والنظم البيئية السطحية والبحرية.
رغم ان منطقة حوض المتوسط ليست مسجلة ضمن أعلى معدل احترار متوقع على الأرض، إلا أنها مقارنة بمعظم المناطق الأخرى، ونظراً لتعرض المجتمعات البشرية والنظم البيئية للتغيرات المناخية الحاصلة، تُعد “نقطة ساخنة” مناخياً وفق تقييم IPCC.
وتُعد المخاطر المرتبطة بتغير المناخ المتوقع، عالية بالنسبة للسكان والنظم البيئية في حوض المتوسط، وذلك بسبب مزيج فريد من العوامل، من بينها فقدان النظم البيئية في المحيطات والأراضي الرطبة والأنهار وكذلك في المرتفعات.
وتعود أسباب ذلك الى آثار تغير المناخ المباشرة المتمثلة بالسخونة وتناقص الهطول المطري من جانب، والممارسات غير المستدامة للموارد الطبيعية من جانب آخر. يضاف الى ذلك تبخر واسع النطاق للمياه من جميع الأسطح الرطبة، ولا سيما البحر والبحيرات والأنهار، وكذلك التربة.
ويؤدي هذا التبخر الواسع إلى تقلص موارد المياه على الأرض، وتجفيف التربة، وتقليل تدفق الأنهار، ونوبات الجفاف الأطول والأكثر كثافة، ما يؤثر بشكل كبير على النباتات والحيوانات والبشر، وفي نهاية المطاف على المجتمعات والصحة العامة والاقتصادات بأكملها.
أغلب الظن، ان الحكومات لم تأخذ كل هذه الأخطار الجدية على محمل الجد ولم تضع برامج على المدى الطويل لمواجهة آثار تغير المناخ، بما فيها الحرائق التي تعد من أبرز ملامح الأزمة الايكولوجية العالمية.
وفي ظل غياب الإدارة المستدامة والاستعداد لأسوء السيناريوهات، لا تغطي الاستجابة الآنية سوى على جزء صغير من الأحداث المناخية المتسارعة والمتوالدة في فصول الجفاف.
ولو تم اعتماد التقرير العلمي الذي وفره IPCC حول واقع حوض المتوسط المناخي مع الحرائق الهائلة التي اندلعت في صيف 2021 بنظر الاعتبار في السياسات الحكومية، لكانت الاستجابة قد سبقت الحرائق الحالية التي اثبتت مرة أخرى غياب المسألة البيئية في السياسات الحكومية.
خلاصة القول، يقتضي الوقاع المناخي الجديد خطط مستدامة وفعالة مثل أنظمة التحذير المسبق والتلقائي، إشراك المجتمعات المحلية في حماية الغابات والمحميات الطبيعية، ومراقبة النشاطات البشرية المتمثلة بالزراعة والتحطيب والرعي والسياحة.