أوكرانيا الأمة والدولة
منذ أحداث “الميدان الأوروبي” أو “ثورة الكرامة” في 23 فبراير (شباط) 2014، وما أعقبها من “ضم” روسيا لشبه جزيرة القرم، وهناك صراع بين الدوائر السياسية والثقافية الروسية والأوكرانية، حول شرعية وجود أوكرانيا وثقافتها وشعبها، وقد تجلى هذا الجدل بوضوح بعد بدء الحرب الحالية يوم الرابع والعشرين من فبراير (شباط).
ينفي السياسيين والمثقفين الروس وجود أمة أوكرانية مستقلة، وهو ما أكد عليه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكثر من خطاب له، وفي مقال كتبه خصيصًا في الثاني عشر من يوليو (تموز) 2021، تحت عنوان «حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين»، والذي أكد فيه أن “الأوكرانيين هم الروس، وكلاهما ينتمي للسلاف الشرقيين”.
لا يمكن فهم الوضع الأوكراني، وطبيعة الصراع الحالي مع روسيا، إلا عبر العودة إلى التاريخ الحاضر بقوة في ظل الصراع على “الشرعية” بين كلا البلدين، وتعدد الروايات والاختلافات حوله، تعني كلمة «أوكرانيا» بحسب أكثر الأقوال ترجيحًا “الدولة الطرفية” أو “الثغر” أي “الحد الفاصل الشرقي بين أراضي الكومنولث البولندي-الليتواني (1569-1795)، وسهوب روسيا القيصرية (1547-1721)”، وقد ظهر للوجود لأول مرة للدلالة على الجزء الأوسط من أراضيها الحالية على الضفتين اليسرى واليمنى لنهر “دنيبرو” بالأوكرانية أو “دنيبر” بالروسية، وذلك في الخامس عشر من فبراير (شباط) 1622، من خلال مراسلات الهيتمان بترو كوناشيفيتش-ساهيداتشني (1582-1622)، وملك بولندا سيجيسموند الثالث فاسا (1566-1632)، حسبما ذكر الجغرافي الأوكراني فولوديمير كوبيجوفيتش (1900-1985)، في «موسوعة الدراسات الأوكرانية».
أوكرانيا، لها تاريخ معقد ومتشابك، وحمال أوجه، فلم يكن هناك عبر التاريخ من وجود لدولة أوكرانية بالحدود التي استقرت عليها عام (1954)، عندما ضم الزعيم السوفيتي الثالث نيكيتا خروشُّوف ((1894-1971)، شبه جزيرة القرم عام (1954) إلى «جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية» على سبيل الهدية، للتعبير عن الوحدة والصداقة بين الشعبين بمناسبة مرور (300) عام على توقيع اتفاقية مجلس «بيرياسلاف رادا» في 18 يناير (كانون الثاني) 1654، بين الهيتمان بوهدان خميلنيتسكي (1596- 1657)، زعيم قوزاق زابوريزكا سيتش، والقيصر الروسي أليكسي ميخائيلوفيتش رومانوف (1629-1676)، والتي بموجبها أعلنت «دولة القوزاق» تبعيتها لروسيا القيصرية، لتتخلص من الظلم والاضطهاد الديني الذي وقع عليها من قبل الكومنولث البولندي-الليتواني، مقابل تمتعها بالحكم الذاتي.
حسبما ورد في كتاب «حكاية السنوات الغابرة»، أسس السلاف الشرقيين أسلاف (الروس، والأوكرانيون، والبيلاروسيون)، أول دولة لهم بعد ما تسمى تاريخيًا «دعوة الفارانجيين»، وهي التسمية الروسية للفايكنغ، حيث أدى التنازع بين القبائل السلافية الشرقية المختلفة لحالة من الفوضى، وفي ظل عدم اتفاقهم على من يتزعمهم لجأوا للقائد العسكري القوي روريك روس (-879)، الذي كان يسكن وقبيلته بالساحل الشرقي للسويد الحالية، والذي يعتقد أن من اسم قبيلته اُشتق اسم «روسيا»، ليأتي بقواته ويحكم هذه الأراضي الشاسعة، ويعلن فيها الأمن مقابل الطاعة ومشاورة زعمائها في أي قرار هام قبل اتخاذه، وبعد توقيع الاتفاقية اتخذ من مدينة «ستارايا لادوغا» في أقصى شمال غرب روسيا، عاصمة لدولته الجديدة عام (862)، وبعد تحصينها، انتقل إلى مدينة «نوفغورود» أو «فيليكي نوفغورود» في شمال غرب روسيا حاليًا، والتي تعني “المدينة الجديدة العظيمة”، وبعد وفاته تولى الوصي على العرش أوليغ فيشي “العراف” (845-912)، السلطة حتى يكبر الوريث الشرعي إيغور روريكوفيتش (877-945).
في ذلك الوقت، نشأت حكومة شبه مستقلة في كييف، وكانت تابعة بالاسم لحكومة نوفغورود، حتى تمكن الأمير أوليغ من القضاء على قادتها، ونقل العاصمة إلى كييف عام (882).
توسعت «إمارة روس» – (882-1240)، كما كانت تسمى، وفي عام (991)، قرر الأمير فلاديمير سفياتوسلافيتش الأول (956-1015)، اعتناق المسيحية الشرقية البيزنطية واعتبارها دينًا رسميًا للدولة، وأمر جميع السكان باعتناقها بشكل جماعي فيما تسمى «معمودية كيفانس» في نهر دنيبرو بمدينة كييف، وعندما تولى ياروسلاف مودري “الحكيم” (978-1054)، أصدر مدونة الأحكام والقوانين الروسية «روسكايا برافدا» عام (1010)، والذي قسم حكم الإمارات الروسية المختلفة بين أبناء وأحفاد الملك المؤسس روريك، على أن يكون “الأمير المعظم”، والحاكم المركزي الواجب على الجميع طاعته في كييف، ويسمى “أمير كييف المعظم”، في ظل نظام أشبه بالحكم الكونفدرالي.
أدى الاجتياح المغولي، لسقوط العاصمة كييف، عام (1240)، وتفكك الإمارات الروسية، ووقوعها زهاء قرنين ونصف تحت هيمنة خانيات التتر والمغول، ونقل العاصمة إلى مدينة نوفغورود، مقابل الخضوع الكامل ودفع الجزية لخانات القبيلة الذهبية (1242-1502)، ثم نقلها أخيرًا إلى موسكو عام (1277). نتج عن هذا الوضع، أن تعرضت أراضي ما تعرف الآن بدولة أوكرانيا، للسيطرة عليها من عدة قوى مختلفة (مملكة بولونيا – دوقية ليتوانيا – مملكة السويد – خانية القبيلة الذهبية – الكومنولث البولندي-الليتواني – خانية تتر القرم – الدولة العثمانية).
أوكرانيا أمة مستقلة وشكلت لنفسها دولة قبل لينين والبلاشفة
وسط تقاسم القوى العظمى آنذاك لأراضي ما تُعرف الآن بأوكرانيا، نشأت «دولة القوزاق» – (1489-1775) المستقلة التي سيطرت على وسط أوكرانيا الحالية وصولاً للعاصمة كييف، والتي تمكنت من تأسيس جيش قوي، وجمعت حولها السكان الرافضين لهيمنة جميع القوى الكبرى المحيطة بهم، وفي هذه الأراضي أسسوا لنظام حكم يمكن وصفه بالديمقراطي وفق معايير ذلك الزمن.
خريطة يكتب تحتها (خريطة دولة القوزاق المستقلة عام (1654) قبل عقد الاتحاد مع روسيا القيصرية وتشمل أغلب أراضي أوكرانيا الحالية في الوسط) – المصدر: المجلة التاريخية الأوكرانية، دولة الهيتمان بوهدان خميلنيتسكي، للمؤرخ الأوكراني بروفيسور ياروسلاف دميترييفيتش إيزيفيتش.
نتيجة للضغوط التي تعرضوا لها من الكومنولث البولندي-الليتواني، ومحاولة فرض المذهب الكاثوليكي بالقوة، عرض القوزاق عام (1654) عقد اتحاد كونفدرالي مع روسيا القيصرية، للحفاظ على إيمانهم الأرثوذكسي، ثم دخلت موسكو على خط المواجهة، لتبدأ عدة حروب مع الكومنولث البولندي-الليتواني، ومملكة السويد، وخانية تتر القرم، والدولة العثمانية ومعها تحالف غربي، حتى اتمت السيطرة على كامل جنوب وشرق أوكرانيا الحالية بالضفة اليمنى من نهر دنيبرو وصولاً لكييف، وصدور مرسوم بتسميتها “نوفوروسيا“، التي تعني بالعربية «روسيا الجديدة»، أو “مالا روسيا”، أي «روسيا الصغرى»، ومساواة نبلائها وقادتها العسكريين بنظرائهم الروس، ونهاية استقلال النواة الأولى للدولة الأوكرانية عام (1775).
كيف تمكن القوزاق من صنع هوية خاصة بهم مستقلة في وسط أوكرانيا الحالية؟
شأن كل الأمم، كان السلاف الشرقيين أمة واحدة، تكاثرت وانتشرت في الأرض، وكونت شعوب ثلاث فيما بعد (الروس، والأوكرانيون، والبيلاروسيون)، خلق كل شعب لنفسه ثقافته ولغته وخصائصه الحضارية.
نتيجة تعرض أراضي إمارة روس القديمة وعاصمتها كييف للغزو المغولي، وتقاسم أراضيها بين عدة قوى امبراطورية، تمكن القوزاق من صنع هوية خاصة بهم مستقلة في وسط أوكرانيا الحالية، وإعادة أعمار العاصمة كييف، وعلى مدار ثلاثة قرون من الاستقلال السياسي والثقافي، شكلوا هوية خاصة بهم كانت بمثابة ميلاد للأمة الأوكرانية، التي تمتعت بكل خصائص الأمة من لغة وثقافة وأزياء وعادات وتقاليد خاصة بها.
منذ اللحظة الأولى لتأسيس الإمارة الروسية في القرن التاسع الميلادي، كان السلاف الشرقيين في المنطقة المسماة حاليًا أوكرانيا لهم طابعهم المميز عن باقي المناطق الأخرى، ولديهم نزعة استقلالية، وترسخت ثقافتهم منذ القرن السادس عشر، ورغم ضم أراضي إمارة القوزاق للإمبراطورية الروسية وانهاء الحكم الذاتي عام (1775)، ظلت الروح الوطنية والثقافية الأوكرانية تتطور، وعبر عنها بوضوح الشاعر الأوكراني الشهير تاراس شيفتشينكو (1814-1861)، الذي تعرض للنفي على يد الحكومة الإمبراطورية الروسية.
عندما وصل البلاشفة إلى السلطة، لم يكن أمام لينين من مفر سوى الإقرار بواقع وجود أمة وثقافة أوكرانية تتمتع بكل خصائص الأمة المستقلة، ولدى زعمائها بما فيهم الشيوعيون رغبة في الاستقلال، وتاريخ طويل من النضال ضد حكم الأباطرة الروس للاعتراف بهويتهم الخاصة، ولذلك منح أوكرانيا وضعًا خاصًا، حيث سمح بتدريس اللغة الأوكرانية، وحصلت على عضوية في الأمم المتحدة رغم أنها كانت جزء من الاتحاد السوفيتي، ووفق هذه الشروط تخلى زعمائها عن مطالب الاستقلال الكامل، وهو ما ينفي ترويج البعض في روسيا بأن أوكرانيا لم يكن لها وجود قبل البلاشفة.
بناءً على ما سبق، يتضح وجود أمة أوكرانية لها ثقافتها المستقلة، ودولة خاصة بها تشكلت نواتها الأولى مع دولة القوزاق منذ القرن الخامس عشر، ولم تكن اختراع بلشفي كما يزعم بوتين وباقي النخب الروسي لإنكار هذه الحقيقة التاريخية عبر الادعاء بألا وجود للأمة والدولة الأوكرانية قبل العام 1922.