كثر الحديث في الأسبوع الماضي عن اقتراب نفاذ الوقت بالنسبة لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني وإنه بات جاهزا ولم يعد هناك إلا بعض التفاصيل الهامشية. لكن كثرة الحديث عن فكرة نفاذ الوقت ثم تواصل التفاوض أضر بمصداقية الطرفين. بعض المصادر الدبلوماسية أشارت فيما سبق إلى أن تاريخ 15 أغسطس كان الموعد النهائي لكن على ما يبدو لا توجد مواعيد مقدسة في العلاقات الدولية. وبرغم ما يقال عن قرب الاتفاق لا يزال الفريقان على تباعد والظروف الدولية تبدو وكأنها تخدم مواقف الطرفين. هناك التوتر القائم بين واشنطن وكل من موسكو وبكين، وهناك الحرب الأوكرانية وهناك ارتفاع أسعار النفط لذلك فالوقت يمر بسلاسة للطرفين.
لا يستطيع أي من الطرفين الأمريكي أو الإيراني أن يعلن أن الاتفاق قد مات وانتهى لأن إبقاء المفاوضات بما يوحي باستمرار حياته يخدم الجانبين ولكل مبرراته
في الظاهر تبدو أطراف الاتفاق مصرة على إنجازه وقد رأت إيران أن المقترح الأوروبي الأخير بخصوص الاتفاق النووي مقبول لما تضمنه من تعهدات بعدم فرض عقوبات جديدة على إيران طوال مدة سريان الاتفاق. لكن لماذا التأخير في التوقيع؟
قد يكون هناك ما هو أكبر من مجرد اختلافات. قد يكون هناك تفاهم خفي على التأخير ولكل طرف أسبابه في ذلك. ربما كان تعزيز العلاقات الإيرانية مع كل من روسيا والصين والهند وتركيا سببا يدفع الولايات المتحدة للإسراع في إنجاز الاتفاق لكن على الرئيس الأمريكي بعض المهام الأخرى قبل التحول إلى إنجاز الاتفاق النووي.
وعلى الرغم مما هو ظاهر من الموقف الأمريكي تجاه الاتفاق من رفض واضح وصريح وحازم لمطالب إيران وشروطها فإن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الآن لم تعد قلقة بشأن الوقت وما زالت مصرة على انتهاج الوسائل الدبلوماسية لأنها في الحقيقة مضطرة لانتظار نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس لكي يتبين وزن الحزب الديمقراطي في الساحة الأمريكية. فتوقيع الاتفاق قبل هذه الانتخابات ستضر بنتائجها التي يعول عليها كثيرا. فإن فاز مرشحو الحزب فسيتمكن من المضي قدما في سياسته تجاه الاتفاق إما التوقيع وإما التشدد والتهديد بالقوة مطمئنا إلى دعم قوي لموقفه في الكونغرس وغير مبال بأي تعطيل يقوم به الجمهوريون.
أما إذا خسر حزبه في الانتخابات النصفية فسيكون موقفه صعبا للغاية وسيواجه معركة شرسة مع الجمهوريين كما سيترتب على خسارة الديمقراطيين في الكونغرس مكاسب كبيرة للجمهوريين ستساعدهم في الانتخابات الرئاسية لعام 2024 وهذا سيعقد الأمور كثيرا.
وما تخشاه إيران هو عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض في انتخابات الرئاسة القادمة لذلك تصر الآن على شرطين هما عدم خروج الإدارات الأمريكية المستقبلية من الاتفاق وعدم فرض عقوبات جديدة ضد إيران وتريد ضمانات مكتوبة بذلك. لكن برغم كل شيء فالإيرانيون أيضا بحاجة إلى انتظار نتائج الانتخابات النصفية في نوفمبر المقبل قبل اتخاذ القرار الحاسم والنهائي بشأن الاتفاق. ومن هنا قد يكون التشدد الإيراني والمطالب المستحيلة التي تصر عليها إيران الآن مجرد غطاء لشراء الوقت إلى حين تبين ما سيحدث على الساحة الأمريكية نفسها.
لا شك أن الرئيس الأمريكي يرغب بالوصول إلى اتفاق وحل يرفع عن كاهله القلق من إيران النووية ليتفرغ إلى باقي شؤونه الرئاسية. فهو يدرك أنه ليس أمامه أي وسيلة أخرى لإخضاع البرنامج النووي الإيراني سوى هذا الاتفاق الذي يشكل الأداة الوحيدة بعيدا عن استعمال القوة.
ومع أن وضع الرئيس بايدن الداخلي تحسن قليلا وارتفعت شعبيته وشعبية حزبه فإنه ينتظر الموافقة الإيرانية التي لا بد أن تأتي بعد الانتخابات النصفية للكونغرس. فإيران تعلم أن واشنطن لن توافق على مطالبها وبالتالي فإنها ستتنازل عن هذه المطالب في الوقت المناسب وستجد التبرير المناسب أمام مواطنيها. وستضطر إيران لقبول الاتفاق من دون موافقة واشنطن على شروطها لأن الاتفاق أصلا كما يقول خبراء القانون الأمريكيون عبارة عن تفاهم سياسي وليس معاهدة ملزمة يمكن معها وضع أي شروط.
ستضطر إيران لقبول الاتفاق من دون موافقة واشنطن على شروطها
تستطيع إيران أن تطمئن قليلا إذا ما فاز الديمقراطيون وحققوا نتائج مهمة. فخشيتها تكمن في الخوف من سطوة الجمهوريين واحتمال عودتهم إلى البيت الأبيض ومن هنا يمكن تفسير هذا الهدوء في المفاوضات بأنه قد يكون ناجما عن تفاهم أمريكي إيراني بأن يتم إعلان الموافقات النهائية بعد انتخابات الكونغرس النصفية.
إذا كانت مكاسب التأخير بالنسبة للإدارة الأمريكية تكمن في تحقيق فوز في الكونغرس فما هي مكاسب إيران في ذلك؟ إيران مستفيدة من الوضع الراهن والنظام غير مهتم بالعقوبات والحصار فهو يستخدم العقوبات لتشديد قبضته في الحكم ككل الأنظمة الدكتاتورية. كما أن ارتفاع أسعار النفط بسبب حرب أوكرانيا أعطى إيران دفعة قوية فهي تبيع النفط ولو بصورة غير مشروعة إلى كل من الصين والهند وتحقق أرباحا طائلة. كما أن إيران ليست في عجلة من أمرها لتطبيع علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة والغرب فهذا التطبيع سيضر بمكانة النظام أمام مؤيديه.
مع كل هذا لا بد أن النظام الإيراني سيبدأ بتهيئة مواطنيه لقبول الاتفاق. فإعلان إيران أن المقترح الأوروبي مقبول كان جزءً من هذه التهيئة. كما أن الحكومة الإيرانية اطلعت البرلمان في جلسة سرية على سير المفاوضات. من المؤكد أن الحكومة الإيرانية لا يمكنها أن تبلغ برلمانها بما هو غير حقيقي كأن تقول له أن واشنطن وافقت على المطالب الإيرانية بينما واشنطن تنفي رسميا وعلنا أي موافقة على تلك المطالب وخصوصا ما يتعلق منها بموضوع تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن المواقع الإيرانية التي أخفيت عن الوكالة. لكن قد تبلغ الحكومة الإيرانية البرلمان بأن المشاركين الأوروبيين في الاتفاق سيضمنون المطالب الإيرانية بصورة غير رسمية وهذا سيبدو مقبولا فالمقترح الأوروبي تضمن بالفعل مثل هذه التعهدات وبصورة خاصة المتعلقة بعدم فرض عقوبات جديدة أو إضافية.
كان الاتفاق المبرم بين إيران والقوى الغربية في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما حيث كان بايدن نفسه نائبا للرئيس إنجازا مهما لكل من واشنطن وطهران وكان أيضا أهون الشرين بالنسبة لهما. لكن قرار الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من الاتفاق استجابة لضغوطات اللوبي الصهيوني في واشنطن أضر بالجانبين ودفع إيران إلى العودة لتخصيب اليورانيوم بعيدا عن رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
إحياء الاتفاق في حال العودة إليه وقبوله من الطرفين سيعني بدء صفحة جديدة في الشرق الأوسط وتغييرات جذرية في علاقات إيران بالولايات المتحدة وربما بعلاقات إيران بجيرانها لكن الذي سيقلق واشنطن بعد ذلك هو الموقف الإسرائيلي الذي يبدو أنه سيظل يغرد خارج السرب بعيدا عن نطاق الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية في المنطقة.