قد يصعب تخيل حدوث ما يمكن أن يغير مسار الحرب في أوكرانيا بين ليلة وضحاها، قد يكون هذا مفهوما للأمريكيين وكذلك للروس فماذا عن الأوكرانيين التي تدور الحرب على أرضهم؟ لا شك أن الأوكرانيين يحتاجون إلى معجزة لإنهاء الحرب والعودة بالبلاد إلى ظروفها الطبيعية. لكن هل حدث في التاريخ أن عادت بلاد إلى حالتها الأولى بعد أي حرب طاحنة؟

تشهد جبهة الحرب الأوكرانية الآن هدوءً حذرا أو شبه استقرار مع هجمات متبادلة متقطعة أي أن الحرب الآن تحولت إلى حرب استنزاف للطرفين وكلاهما على ما يبدو في موقف دفاعي. ومع أن القوات الروسية تحتل حوالي عشرين في المئة من أراضي أوكرانيا القريبة من حدود روسيا إلا أن هذا الاحتلال لن يساعد روسيا في إعادة أوكرانيا إلى أحضان موسكو مثلما كان يأمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

الأوضاع العسكرية على الجبهة ليست مثلما أرادت موسكو فالموقف العسكري يراوح مكانه مما يرشح الحرب للتمدد حتى نهاية الشتاء المقبل على الأقل ما لم يتم التفاوض لإنهائها قبل ذلك. في هذه الظروف تحولت الحرب فعلا إلى حرب استنزاف وستكون حربا طويلة. ما الذي حققته روسيا على الأرض خلال ستة شهور من الحرب؟  لم تستطع روسيا أن تحسم الحرب فيما عدا إحكام قبضتها على المناطق الشرقية من أوكرانيا التي يسيطر عليها أصلا متمردون موالون لموسكو. أما في داخل الأراضي الأوكرانية نفسها فلم تستطع روسيا سوى التغلغل بضعة كيلومترات فقط وهذا لا يعد إنجازا عسكريا ضخما بمقاييس دولة بحجم روسيا. كذلك لم تستطع أوكرانيا أن تقطع دابر الهجوم الروسي وتحسم الحرب من جانبها. كل ما تمكنت منه أوكرانيا هو الصمود ووقف تقدم القوات الروسية نحو عمق أوكرانيا وإسقاط النظام الذي تتهمه موسكو بالنازية. أما النصر الذي تحلم به أوكرانيا عبر الدعم العسكري اللامحدود القادم من الولايات المتحدة والغرب فلن يتحقق إلا في حال بدأ الروس يتراجعون بالفعل.

خلاصة الموقف هو أن الحرب لم تنته وروسيا لم تنتصر لكن ضغطها على أوكرانيا يكاد يخنقها. كل المتابعين والمهتمين يدركون أن نهاية الحرب لا تبدو قريبة والدعم الأميركي يصاحبه تشديد على ضرورة صمود أوكرانيا وعدم السقوط في إغراء الاستسلام. وتقارير الميدان تؤكد أن قوات أوكرانيا صامدة في وجه القوات الروسية وتلحق بها خسائر. وتستخدم أوكرانيا بكفاءة المسيّرات التي زودتها بها الولايات المتحدة وحلف الناتو وحققت نتائج كثيرة.

فإذا ما استمرت حالة الحرب على شكل حرب استنزاف فإلى أي مدى يمكن للرئيس بوتين أن يصمد فيها؟ الأوكرانيون مصممون على ما يبدو إلى تحويل الحرب إلى حرب استنزاف طويلة الأمد لانهاك القوات الروسية وقد أشرفوا على الانتهاء من تشكيل فرقة مدرعة جديدة مدعمة بأسلحة غربية حديثة للقيام بهجمات مضادة. لكن هل تستطيع أوكرانيا أن تجبر الروس على التراجع؟ هل يقبل الرئيس بوتين بالتراجع؟

ما رتبت له موسكو ليكون حربا خاطفة وحملة تأديبية لأوكرانيا لتمنعها من التحالف مع الغرب في إطار حلف الناتو اصبح حربا عميقة تجاوزت الآن ستة شهور ولا يبدو أن لها نهاية قريبة. لكن لماذا لا تخشى روسيا من إطالة أمد الحرب وتحولها إلى حرب استنزاف؟ ما الذي ينتظره الرئيس بوتين؟ أنه ولا شك ينتظر انقسام التحالف الغربي أو انهيار الجيش الأوكراني. ومع ذلك لم يصدر أي تفسير روسي عن سبب توجيه الأوامر بتخفيض زخم الهجمات الروسية أو بطء تقدم القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية.

بالنسبة لانهيار الجيش الأوكراني فإنه يبدو بعيد المنال فهذا الجيش لا يزال يتلقى المزيد من العتاد والمساعدات العسكرية من الغرب فيمكنه الصمود طويلا. وبالمقابل وجه الرئيس بوتين بزيادة أعداد قواته المسلحة بشكل ملموس ولكن دون الوصول إلى حال التعبئة العامة وفرض التجنيد أو إعلان الحرب الشاملة. وهذا التوجيه يكشف مدى توقعات الجيش الروسي بشأن امتداد الحرب وإطالة أمدها كما يكشف حاجة الجيش الروسي الماسة لزيادة قدراته على الصمود في وجه مقاومة الجيش الأوكراني. بالإضافة إلى أن هذا القرار يشكل إشارة خفية إلى حجم الخسائر الكبيرة التي تكبدها الروس في هذه الحرب والتي زادت بحسب بعض التقديرات عن ثمانين ألف إصابة بين قتيل وجريح ومفقود.

وعندما تكتفي البيانات العسكرية الروسية بالقول أن العمليات الحربية تجري وفق ما هو مرسوم لها ولا تذكر أي إنجازات بارزة فالتفسير الممكن لهذا هو أن الحالة فيها تراجعات أو خسائر كبيرة. وحتى الآن لا توجد دلائل على أن موسكو مستعدة لإنهاء الحرب حيث هي الآن. ويرى الخبراء أن الرئيس بوتين ليس لديه أي خطط بديلة للخروج من هذا المأزق.

أما بالنسبة لأوكرانيا فإن قادتها العسكريين يرون انهم لا يستطيعون التوقف عن المقاومة والقتال مع انهم في الوقت نفسه لا يستطيعون إخراج القوات الروسية من أراضيهم. وبحسب هؤلاء القادة فإن الأيام الصعبة لم تأت بعد. وما يدفع الأوكرانيين للصمود أنهم يتلقون الأسلحة الغربية والدعم السياسي الأوروبي وهذا ما يرفع معنوياتهم ويطمئنهم. ولا شك أن الأسلحة الأميركية التي تزودت بها أوكرانيا ساعدتها كثيرا على الصمود وشجعها على الإيمان بحتمية انتصارها في النهاية.

بعد ستة شهور من الحرب وبدلا من استعراض الجيش الروسي في العاصمة الأوكرانية حسب ما تمنى الرئيس الروسي قامت السلطات الأوكرانية بعرض عشرات الدبابات الروسية المعطوبة والمدمرة في شوارع كييف.

لكن التساؤل الذي يتردد في أذهان الأوكرانيين هو لماذا لم ترسل الولايات المتحدة أو حلف الناتو قوات لدعم الجيش الأوكراني؟ واذا كان الحلف لا يمكنه إرسال قوات إلى أوكرانيا لأنها ليست عضوا فيه وهذا أمر مفهوم فلماذا لم ترسل الولايات المتحدة قواتها لدعم الجيش الأوكراني وهي التي أرسلت قوات إلى العراق وإلى أفغانستان ومناطق أخرى؟

قد يكون التهديد الروسي باستخدام أسلحة نووية تكتيكية لمواجهة أي تدخل غربي مباشر في أوكرانيا سببا في ذلك. لكن الولايات المتحدة ربما أرادت من ذلك أن تطيل أمد الحرب لتوريط روسيا في حرب استنزاف تستهلك قواتها وأسلحتها وأموالها. فهذه فرصة ذهبية للغرب لإضعاف روسيا وإسقاطها كما تم إسقاط الاتحاد السوفياتي.

مقابل ذلك وبرغم العقوبات التي لم تؤثر بعد في عمق الاقتصاد الروسي لا يزال الرئيس بوتين يحكم قبضته على السلطة ويتحكم في رجالها ولم تظهر أي بوادر معارضة لحربه في أوكرانيا سواء من قبل القيادات العسكرية أو البرلمانيين. سبق أن تظاهر بعض الناشطين ضد الحرب ولكن تلك التظاهرات توقفت بصورة غريبة والقمع الذي تعرضوا له يمنعهم من تكرار ذلك.

يصعب توقع ما سيحدث في المستقبل القريب وكيفية تغير المواقف العسكرية في الميدان أو المواقف السياسية على الساحة الدبلوماسية. فقد تستمر حرب الاستنزاف هذه لسنوات ثم تهدأ الجبهات وتبقى القوات حيث هي ويتواصل الأمر لسنين عديدة وتصبح قضية مزمنة يتعايش معها العالم دون الالتفات إلى المصالح الحقيقية للشعب الأوكراني.

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولاتعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن