باكستان تعيش كارثة بيئية غير مسبوقة
- يهدد ارتفاع منسوب مياه الأبحار أجزاء في أكثر من بلدي عربي
- تتوقع دراسة وأبحاث دولية أن تفقد المنطقة نصف مساحتها الجليدية الحالية بحلول عام 2060
رياح موسمية متوحشة
أوصلت الفيضانات التي تستمر منذ أكثر من شهرين باكستان الى نقطة الصفر على جميع الأصعدة البشرية، الاقتصادية، الزراعية، الصحية والبيئية. لقد بلغت أعداد القتلى 1100 شخص، تضرر أكثر من 33 مليون انسان، دُمر مليون بيت وأكثر من 160 جسر، فيما تجاوزت أعداد الطرق المعبدة التي انهارت جراء شدة الفيضانات 3200، ناهيك بالقضاء على المحاصيل وتدمير البنى التحتية. وتقدر الأضرار الناجمة عن هذه الفيضانات العارمة بعشرة مليار دولار وفق وزير التخطيط الباكستاني احسان اقبال. وستحتاج البلاد التي تعد ثامن دولة في العالم من حيث الضعف والهشاشة أم تغير المناخ، عقوداً لإعادة اعمار ما خلفته السيول من الدمار والتخريب.
بلغت أعداد القتلى 1100 شخص، تضرر أكثر من 33 مليون انسان، دُمر مليون بيت وأكثر من 160 جسر
ما حصل في هذا البلد الآسيوي الذي لا تتجاوز مشاركته في انبعاثات الاحتباس الحراري 1٪ على مستوى العالم، يعد كارثة بيئية غير مسبوقة، وذلك بسبب حجم سقوط الأمطار الهائلة التي فاقت المعدلات الطبيعية بعشرة أضعاف ما أدى الى إغمار ثلث مساحة البلاد تحت مياه السيول والفيضانات. ولا تقتصر أضرار الفيضانات على الأرقام والبيانات المذكورة فقط، بل وقد تؤدي الى تفشي الأوبئة جراء الخراب الذي حصل في أنظمة الصرف الصحفي وشبكات توزيع المياه الصالحة للشرب. ويأخذ في الحسبان من هذه الناحية، ضعف المؤسسات الحكومية وادارتها الهشة للبنى التحتية، ناهيك بصراعات سياسية داخلية تحول دون وضع تغير المناخ وآثاره على رأس أولوية السياسات الحكومية منذ سنين.
ماذا حصل؟
ولكن السؤال هنا هو: لماذا حصلت هذه الفيضانات المدمرة وكيف، وهل كانت هناك إشارات مناخية لما حصل وغضت الحكومة الباكستانية النظر عنها؟ أما السؤال الأبرز فهو، هل يمكن تجنب ما حصل في المستقبل، ليس في باكستان فحسب، بل حتى في منطقتنا مثل العراق، وهو أكثر هشاشة من باكستان أمام تغير المناخ، وكذلك في مصر والسودان وفي لبنان؟ تقتضي الإجابة على السؤال الأول العودة الى خارطة الجيو-مناخية لباكستان والبلدان الأخرى في جنوب آسيا، أما السؤال الثاني فيستوجب تسريع التوقعات وآليات المجابهة، ذلك ان آثار تغير المناخ وعلى رغم اختلافها بحسب المناطق والأقاليم، انما تتميز بنقاط تشابه كثيرة تتركها سرعة المتغيرات المناخية وستكون لها تداعيات قد تتجاوز التصورات العلمية حول المناخ.
تعد باكستان أكبر خزان للأنهار الجليدية في العالم وتصل أعدادها الى 7000 آلاف نهر جليدي في شمال جبال الهيمالايا
بعد القطبين الجليديين، تعد باكستان أكبر خزان للأنهار الجليدية في العالم وتصل أعدادها الى 7000 آلاف نهر جليدي في شمال جبال الهيمالايا. ويعيش معظم سكان باكستان البالغ عددهم 221 مليون شخص، على طول نهر السند الذي يتدفق من تلك الجبال ويدخل الى بحر العرب جنوبي البلاد حيث مدينة كراتشي. وما حدث جراء ارتفاع درجات الحرارة هو ذوبان الأنهار الجليدية ما نجم عنه تشكل 30 بحيرة جليدية، 33 منها معرضة لخطر الانهيار. من هنا تظهر نقاط التشابه والتقارب: ينجم عن ذوبان الأنهار الجليدية على بين قمم الهيمالايا ارتفاع منسوب المياه في بحر العرب وغيرها من البحار جنوباً ما يعود بالخطر على المناطق الساحلية.
شذوذ المناخ
تتوقع دراسة وأبحاث دولية أن تفقد المنطقة نصف مساحتها الجليدية الحالية بحلول عام 2060، أي قبل عقد من الموعد النهائي المتوقع سابقاً وهو 2070. وما زاد من شدة الفيضانات الناجمة عن الرياح الموسمية المصحوبة بالأمطار هذا العام، هو ارتفاع درجات الحرارة الى نصف الغليان في عدد من المناطق الباكستانية، الأمر الذي أدى الى ذوبان كميان هائلة من المياه المتجمدة في جبال الهيمالايا. لقد تزامنت هنا أحداث تسمى بالشذوذ المناخية، حيث تلتقي الحرارة القياسية بهطول أمطار قياسية فيما الأراضي غير قادرة على امتصاص المياه.
ومن شأن انحسار هذه الأنهار الجليدية وذوبانها جراء ارتفاع درجات الحرارة، ترك عواقب كثيرة على مصادر رزق ما يقرب مليار شخص في الهند وباكستان وأفغانستان ونيبال اذ يعتمدون جزئياً على تدفق المياه السطحية الموسمية من الأنهار الجليدية لأغراض الري والطاقة الكهرومائية ومياه الشرب والزراعة وتربية الماشية.
ما زاد من شدة الفيضانات هو ارتفاع درجات الحرارة الى نصف الغليان الأمر الذي أدى الى ذوبان كميان هائلة من المياه المتجمدة
في العادة تقتصر دورة الرياح الموسمية وموسم هطول الأمطار النشط على شهر ونصف فقط، تحديداً في شهري يوليو وأغسطس (تموز وآب)، ولكن بدأ الموسم مبكراً هذا العام واستمر دون التباطؤ منذ شهر يونيو (حزيران). وكتبت وزيرة المناخ الباكستانية شيري رحمان على تويتر، “لم تشهد باكستان قط دورة متواصلة من الرياح الموسمية مثل هذه”. لقد جلب هذا الوحش الموسمي غير المسبوق بحسب الوزيرة الباكستانية، ظاهرة مناخية مريرة غير مخففة إلى عتبة الأبواب. وتؤكد المسؤولة الباكستانية في تغريدتين بتاريخ 31 أغسطس والأول من سبتمبر الحالي على ان بلادها حتى إذا أصبحت خضراء تماماً، فإن الطاقة المتجددة لن تخفض سوى أقل من 1٪ من انبعاثات الكربون ولن يتغير الاحترار، لأن الاحترار لا ينتج عن باكستان، انها تدفع ثمن انبعاثات الآخرين.
بناءً على ذلك، لا يمكن النظر الى التزام عمالقة انبعاثات غازات الإحترار مثل الصين والولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية باتفاقية باريس/2015 لخفض الانبعاثات، على انه مساعدة للدول الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ، بل انه تعويض مقابل اضطهاد مناخي تمارسه الدول المولدة للانبعاثات بحق الآخرين تاريخياً. انها اللاعدالة المناخية التي تدفع تكلفتها الباهظة بلدان في آسيا والشرق الأوسط والقارة الأفريقية أكثر من غيرها.
هل توقظ فيضانات باكستان بلدان عربية؟
يهدد ارتفاع منسوب مياه الأبحار أجزاء في أكثر من بلدي عربي، جنوب العراق، مدينة الإسكندرية في مصر ومناطق ساحلية في لبنان، وكذلك أجزاء من السودان جراء فيضانات النيل الأزرق والأبيض الموسمية؛ فضلاً عن آثار أمطار موسمية غزيرة مثلما حدث مؤخراً في كل من سلطنة عُمان واليمن. وتشير أبحاث من مراكز دولية الى احتمال إغراق الإسكندرية بمصر واختفاء تراثها الثقافي بسبب ارتفاع منسوب المياه، وكذلك البصرة ثاني أكبر مدينة في العراق حيث يمكن ان تغمرها المياه بحلول عام 2050. ويمكن للهجرة الناجمة عن ارتفاع منسوب البحار أن تؤدي إلى نشوب صراعات إقليمية أو تفاقم الصراعات القائمة داخل بلد واحد، العراق نموذجاً.
في العراق، اليمن، السودان ولبنان، لا يمكن التنبؤ بما يحصل جراء تغير المناخ، لأنها تعاني من بنى تحتية هشة غير قادة على امتصاص الصدمات المناخية
في العراق، اليمن، السودان ولبنان، لا يمكن التنبؤ بما يحصل جراء تغير المناخ، لأنها تعاني من بنى تحتية هشة غير قادة على امتصاص الصدمات المناخية من جانب، وصراعات سياسية تحول دون قدرة “الدولة” على وضع الأخطار المناخية على رأس أولوياتها السياسية من جانب آخر. أضف الى ذلك ان السيناريوهات المناخية لم تبق توقعات علمية فقط، بل أصبحت واقعاً نعيش تفاصيله. والسؤال هنا هو: هل توقظ فيضانات باكستان الدول العربية وتأخذ المخاطر على محمل الجد؟